صلاح الأصبحي-متابعات
قد يبدو اليمن بلداً متحداً بهوية واحدة وخاصة إبان قيام ثورته الجمهورية، لكن في الحقيقة أن فيه الكثير من الهويات الطافية على سطحه، أو المضمرة في سلوكه، هويات ناشئة خاضعة لظروف سياسية طارئة، وهويات مترسخة في جذوره ومعقدة في تركيباته الاجتماعية وحين سنحت لها الفرصة برزت إلى السطح وأصبحت تخلق تأزماً هوياتياً وتعيد تقسيم المجتمع وفقاً لأدبياتها التي غدت تثير الضغينة وتجبر الشرائح الاجتماعية بمختلف مستوياتها للبحث عن جذر هوياتي مناف لها ومتضمن لعمق يفوق تفشي تلك الهوية العنصرية.
قبل الخوض في ثنايا هذا التأزم، ينبغي التنبيه أن ضعف الهُوية الوطنية الجامعة في العقود الجمهورية أفسح المجال للتمترس خلف عدة هويات قومية ومناطقية ودينية وإيديولوجية واجتماعية تغلغلت في بنية المجتمع اليمني، إلا أنها لم تتحول إلى تباه سلوكي ملموس بفضل وجود سلطة شبه متماسكة عملت على النأي بالمجتمع عن خوض غمار صراع الهوية، وإن كانت هذه السلطة في بعض جوانب سياستها كانت تغذي هذا الصراع وتستغله لإطالة أمدها، لكن بمجرد انفراط عقدها نشبت تلك الانتماءات واستعادت تلك الهويات نشاطها معيدة تقسيم المجتمع وتصنيفه تباعاً لها.
كانت الجمهورية قد رسمت هوية واحدة لليمن وكان أحد أهدافها الثورية إزالة الفوارق الطبقية وتشكيل مجتمع منتمي لليمن بعيداً عن أية عصبية سلالية أو مناطقية أو اجتماعية، لكنها فشلت في اتخاذ خطوات تثبيت هذه الهوية، ومع عودة الإمامة بنسختها الحوثية الانقلابية في 2014 ظهرت الهوية الهاشمية السلالية كتعال وتحيز على الهوية اليمنية، والتصقت رمزيتها بسلطة الانقلاب التي بدأت الترويج لهويتها وربطها بنظام الحكم، وازدراء هوية اليمن وتجييرها لتقبل هويتها والانصياع لطموحاتها الاجتماعية والسياسية.
لم يكن تصدع الهُوية في العقد الأخير بريئاً، وإنما كان الأمر بمثابة فتح هوة خلاف جديدة في جسد المجتمع من قبل الحوثيين، فحدث إحياء لتميزات ميتة كانت في قائمة النسيان لتبرز من جديد، كزيدي وشافعي، وشمالي وجنوبي وسادة ورعية، خلافاً للانتماءات المناطقية التي بدأت تنحو منحاً هوياتياً منفصلاً عن هوية اليمن الكلية، وكذلك انزلاق الانتماءات الحزبية لتشكل هويات داخلية ثانوية متناحرة وسمات تعريف خاصة تلغي نظيراتها في السياق وخصمها في الواقع.
ولذا كان متوقعاً أن تولد هُوية جديدة مناوئة للهوية الهاشمية المتفشية كردة فعل طبيعية منسلخة من انتصاب الهويات، فجاءت حركة القومية اليمنية أقيال التي دعا إليها جيل الشباب في اليمن من ناشطين وسياسيين وكُتاب ومبدعين، وأصبحت خطاباً هوياتياً منتشراً يتخذ من الحضارة اليمنية القديمة منطلقاً لتأسيس ملامح هوية، والتعصب لقيمتها الحضارية والاعتزاز بمبادئها العمرانية من مآثر وأمجاد وتاريخ ولغة كانت شواهد رقي اليمن قديماً ومصدر استقلالية هويته في الجزيرة العربية قبل أن تتلاشى مع دخول الإسلام اليمن والتماهي مع قيمه ومبادئه التي انحرفت إبان الصراع السياسي الإسلامي وظهور مصطلح البطنين والاصطفاء والنسل المقدس، وبالرغم أن حركة القومية اليمنية ناشئة إلا أنها شكلت نداً مباشراً للهاشمية وأجبرتها على استهجانها ومهاجمة مرتكزاتها باعتبارها رجعية عصبوية وفاشية قومية، لكن ربط العصبوية العنصرية الهاشمية بالدين والعقيدة يتيح لأتباعها الاعتقاد بأنها منطقية ومن مبادئ الدين التي يجب تقبلها دون اعتراض.
وبما أن هذه الهوية " أقيال" ليس لها إطار سياسي أو حامل اجتماعي فقد ظلت مقتصرة على شباب السوشيال ميديا ولم تترجم كمشروع وطني سياسي ثقافي قائم على تأصيل فكري وتاريخي فلم تحظ بثبات، وقوبلت باستهجان المجتمع ومنابر رجال الدين وبعض من يعتبرها ردة وثنية تبعث رموز هوية بائدة لم نعد بحاجة لها في اللحظة الراهنة، وبأنها تسير على نفس نسق العنصرية السلالية، وهشاشة التردي الثقافي والسياسي اليمني الذي أغرق المجتمع في عودة هويات سحيقة لتصبح أعمدة واقعه اليوم.
من المؤكد أن تأزم الهوية في أي بلد يكون مدعاة لخراب أعمق وتشظ أكبر وصراع أشد وتناحر أكثر، وسعي دائم للانتصار لكل هوية على حساب أخرى، والأخطر في اليمن أن نشاط الهويات الصغرى مصحوب بطموح الاستقلال السياسي والانفصال المباشر لحدود تلك الهوية، فـ"الجنوب العربي" هوية لما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية قبل الوحدة، ومن صلبها تأبى الهوية الحضرمية الانتماء لها بدعوى اختلافها عنها سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وكذلك في شرق اليمن الهوية المهرية المختلفة بخصوصية اللغة والجغرافيا، وعلى هذا النسق بات اليمن يعج بهويات عرقية وطائفية ومناطقية وسياسية، تتضخم يوماً بعد آخر وتتوغل في الوعي والسلوك دون احتساب مخاطرها أو خشية الهاوية التي يمكن بلوغها بسبب صراعاتها المتفاقمة وأبعادها التناحرية الوشيكة.
والأخطر أن فشل الاستقرار السياسي والصيغة السياسية المتجاوزة لمثل هذا التأزم سيمنحه فرصة أكبر للتمدد والاتساع والبدء باقتتال داخلي أهلي تحت شعار الهويات فيزداد تفكك النسيج الاجتماعي ويغدو القبول بها أمراً واقعياً خاصة أن التفكير الانطباعي العام الإقليمي والدولي يبارك هذا التأزم ويعمل على ترسيخ أركانه لخلق مزيد من الفوضى والتشطير بين أقطاب الصراع، فلم تعد هناك رغبة في إعادة بناء مجتمعات متماسكة بهوية واحدة.
يحتفظ لنا التاريخ اليمني بنماذج تأزم الهوية، ولعل أشهرها أحداث13 يناير1986 الدامية في الجنوب بين الضالع وأبين، أما في الشمال فكان تأزم الهوية حاضراً في دوائر صنع القرار السياسي بين النخب على أساس الهوية وأدى إلى حدوث عدة انقلابات واعتقالات واغتيالات وتصفيات لكنه لم يتوسع إلى فعل مجتمعي وإلا فإن عواقبه كانت وخيمة، علماً بأنه إذا أصبح واقعاً في اليمن اليوم والغد فإن وحشية التعصب وعنف التطرف لكل هوية ستزهق كثير من الأروح؛ لأن الطبيعة الجيوسياسية اليمنية متشابكة ومتداخلة والتداخل بين فئات المجتمع حاضر بقوة بحيث لا يمكن الفصل بينهم على أساس الهوية، كما أن الشعب المتخم بالسلاح والجهل سيشعل فتيل الصراع في أية لحظة.
ولذا فعلى النخب الوطنية استدراك الغرق في مستنقع التأزم، من خلال تقديم خطاب سياسي وإعلامي متزن يمتص حدة التوتر ويبتلع مزالق الانجرار نحو بؤرة العصبوية، كما يجب اتخاذ خطوات حازمة من قبل الدولة لمنع أية تغذية لهذا المنزلق الخطير، فحالة الفوضى والانفلات الأمني والانهيار السياسي عوامل مساعدة في ترسيم ملامح هذا التأزم والمضي في أبعاده، كما يجب كتم تلك الأبواق المروجة للأفكار الفاعلة في تبني ودعم أية توجهات من هذا القبيل حتى لا يتم التلاعب بعقول الأجيال الناشئة وتفخيخ أذهانهم بمثل هذه الترهات الهدامة المقوضة للسكينة والتلاحم والتعايش والتسامح والاعتراف بالآخر رغم مهما كان اختلافه تحت ظل سلطة الدولة والقانون .
ومن هنا فإن اعتبار الجمهورية كهوية سياسية ووطنية جامعة سيمكنها من ابتلاع الهويات الأخرى، ويفترض توحيد كل الانفعالات والمشاعر والخطابات لإبراز هذه الهوية كمصير وجودي وإرادة شعبية تغرس في الوعي والسلوك والثقافة وترسخ في منابر التعليم من مدارس وجامعات ودور العبادة ولغة الإعلام والصحافة والفكر والإبداع، وألا تتداخل المفاهيم المعمقة للتشظي؛ لأن التاكيد على الهوية الوطنية والولاء الوطني هو البداية المثلى لتأسيس مشروع استعادة الدولة وإقامة أسسها الفعلية بعيداً عن الانحرافات الأخرى وبمثابة منجاة للكل وتحت سقف وطموح واحد، وليس لدى اليمنيين طاقة للتفرقع بين عدة هويات فالصراع السياسي قد تكفل بإنهاك المجتمع وتفكيك نسيجه.
المصدر: يمن شباب نت