اخبار هامة

    الجغرافيا نسق الهيمنة في اليمن!

    الجغرافيا نسق الهيمنة في اليمن!

    صلاح الأصبحي-متابعات

    الجغرافيا في اليمن ليست تضاريساً وطقوساً بل هي نظرية وجودية شمولية تشكل مظاهر الحياة، وتفرض حضورها في التركيبة البنيوية العميقة للمجتمع، تركيبة الوعي والسلوك والثقافة والمعتقد، ومن منظورها ترتسم صور وملامح الواقع، وبسبب هيمنتها تنبثق كل قضايا هذا البلد وسلبياته- التي عصفت بماضيه وحاضره وفي طريقها لتدمير مستقبله - من بوتقة إفرازاتها، وليس هذا فحسب كما أنها من معيار جيوسياسي أصابت اليمن بلعنة تآمرية عملت أحقادها على انتزاع أي مستقبل يمكن أن يناله، وجعلته يتآكل ويتفتت ويشحذ استقراره كعاجز مستلب بلا إرادة طيلة عقود.

     

    ليس هذا التصور من مفارقات الخيال بل حقيقة ثابتة بحاجة إلى قياس مخاطره وفهم انعكاساته التي قوضت اليمن، وأخرجته عن الصلاحية القابلة للتغيير والنهوض، ولن تجد مجتمعاً الجغرافيا فيه شيطاناً خفياً فاعلاً في أفكاره وسياساته واقتصاده وثقافته وسلوكه، وكل إشكالياته لها صلة مباشرة أو غير مباشرة  به .

     

    كثيرة هي القضايا اليمنية والعاهات المتفشية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً ودينياً، ولو لم يكن منطقها وفلسفتها قائماً على بعد جغرافي لكانت معالجتها هينة، لكن أن يكون ذلك البعد كقانون الجاذبية ما أنفك يفارق طبيعتها وماهيتها  .

     

    والمثير للغرابة أن كل إشكال أو انحراف أو صراع في اليمن يتم تحصينه بحدود جغرافية كسمة مثالية مصاحبة لا جدال فيها، فحين دحضت الإمامة بقيام ثورة سبتمبر انسحبت الإمامة إلى صعدة كمنطقة جغرافية وظلت عقيدتها قائمة هناك رغم انتصار الجمهورية الوليدة التي واجهت تحديات جسيمة كان جلها أن تبقى السلطة حكراً على ما عرف بسلطة الهضبة الزيدية، وتحريمها على ما سواهم من خارج تلك الحدود، وبقي ذلك التصور السياسي نشيطاً حتى اللحظة في الوعي السياسي اليمني .

     

    التاريخ اليمني شمالاً وجنوباً متخم بتأثيرات الجغرافيا ومعضلاتها المعيقة، فليست مسميات الصراع ودوافعه فيه حقيقية، بل صراع في إطار جغرافي متناطح، أصحاب مطلع ومنزل، الزيود والشوافع، الطغمة والزمرة، قبائل الطوق ورعية الوادي، مناطق النفوذ للسلطة والثروة والجيش، الهوية القائمة على جغرافيا، أي أن الاحتكار الجغرافي يقف وراء كل إشكالية يمنية.

     

    ومن هنا فإن السائد أن لعنة الجغرافيا لها مفهوم يتعلق بالأخطار التي تصيب أي بلد نتيجة محيطه القامع لنهوضه، لكن أن تنعكس عليها داخلياً تلك المقولة، وتصبح جزءاً من فلسفة المجتمع ونظرته لمسار حياته، فتلك المعضلة التي نراها شاخصة في اليمن، حيث تنشط لتبلغ مداها العصبوي والمناطقي في كل المنعطفات التحولية التي ينبغي أن يكون السعي للتنصل عن مخاطرهما لا بعثهما من الرماد واتخاذهما دستوراً.

     

    عندما يتحول البلد إلى جزئيات جغرافية، كل جزئية يغريها الانتصار الوهمي على الأخرى، كما لو كانت قضية مصيرية، ويمارسها المجتمع بيقين ثابت، حتى أن النخب متورطة في تلك العاهة، وهنا جاء الانقلاب الحوثي لتغذية هذا العطب واستغلاله لصالحها في سياستها، ونفخ أبواق العداء من هذه الزاوية، ليفقد المجتمع هويته المدنية وثقافته التحضرية، وتبلغ العنصرية الجغرافية أوج قوتها من تنمر واستخفاف وتضخم للذات وعنف فردي وسلوكيات عدوانية تتجلى هنا وهناك.

     

    لقد جلبت لنا هذه الشوفينية الجغرافية سيلاً عارماً من المآسي ومزقت شريان حياتنا، لقد أهدرت فرص النجاة، وجمدت نوايا الانقاذ، ومشاريع التحول إلى مجتمع مدني طيلة عقود أو فرصة بناء دولة حقيقية، وليست دولة مناطقية مبنية على حصص التوزيع والتدوير لكل المناصب وفقاً للحيز الجغرافي، نحن لم نفهم الدرس بعد، لم نخرج من بوتقة هذا  التفكير، ولم تؤثر فينا الصدمات والانتكاسات والخيبات التي تفتك بواقعنا بلا إشفاق.

     

    ولذا فإن هذا النسق في ظاهره يبرز مدى الحب تجاه جغرافيتنا، ولكن في باطنه يثبت كرهاً ألحق الكثير من الضرر، وفاقم مشكلات لا نهائية بحق هذا الوطن، بسبب خلل نسقي متجذر في الوعي اليمني، فالشواهد على فاعلية هذا النسق في مجتمعنا لا تحصى، وأنت تتجول في حارات في صنعاء مثلاً ستلحظ أن كل حارة خاصة بمجموعة من الناس من المحويت أو من حجة أو من خولان، كما لو كانوا في قراهم النائية يمارسون عاداتهم وطقوسهم التي ألفوها في جغرافيتهم، هذا الانغلاق دليل يقين اليمني بالأمان الذي يتوهمه ويزينه له نسق الجغرافيا المهيمن.

     

    الشاهد من كل ما سبق تفصيله أنه لا يمكن فهم اليمن واستيعاب طبيعته للعلم به أو للتفكير بحلول تناسب تعقيدات أزماته مالم نضع في اعتبارنا الصراع الجغرافي المستفحل؛ كونه قد أفشل كل محاولات إنهاء بؤسه، من خلال تحالفات تنشب داخل نسقه، على سبيل المثال بين الهضبة والمذهب والسلالة، ومهما بقينا نندد بمصطلحات سياسية وتسميات صراعية تشخص المشكلة وتعجز عن حلها، وعليه فإن الاختراق الوحيد لهذه المنظومة هو صورة الشباب في 2011، لكن سرعان ما حصل الالتحام، وفشل الاختراق، كانت تركيبة الجيش اليمني في عهد صالح مؤسسة على ضوء هذا النسق حيث القيادة حصرياً على ضباط سنحان وخولان وحاشد عموماً كنوع من الولاء والثقة، بينما الضباط غير المنتمين لهذه الدائرة مهمشين.

     

    وعليه نقول: لن نخرج من هذا الجحيم الذي يحاصرنا مالم يتم التمرد على هذا النسق وتفكيك حضوره في الذهنية اليمنية، وإعادة تشكيل المجتمع بلا عصبية ولا هيمنة لمنطق الأرض، وسيادة قيم الدولة والمدنية والتعايش بلا شوفينة بلهاء، فقد عشنا خمسة عقود جمهورية كشعارات وخطاب سياسي واجتماعي لكنها عقود مثقوبة بالحمية والتفاخر المناطقي وتحكمه بكل مفاصل الأرض والإنسان دولة وثروة، وكل الحروب والصراعات المتوالية مجرد ظل يتبع تلك العصبويات الخرساء.

     

    المصدر: يمن شباب نت

    قد يعجبك ايضا!