اب بوست-خاص
منذ أكثر من ثلاثة أشهر تعيش محافظة إب على وقع حملة اختطافات متصاعدة تقودها مليشيا الحوثي، استهدفت أطباء وأكاديميين ومحامين ومعلمين وناشطين وخطباء ووجاهات اجتماعية، لم تعد الحملة مجرد أحداث متفرقة، بل تحولت إلى سياسة ممنهجة تهدف – وفق مراقبين – إلى تفريغ المحافظة من قياداتها المؤثرة وشل أي إمكانية لخلق رأي عام مستقل. ومع تزامنها مع فعاليات سبتمبر، الذي يرمز في الذاكرة اليمنية إلى ثورة الجمهورية الـ 26 من سبتمبر، اكتسبت الحملة بعداً رمزياً إضافياً اعتبره كثيرون محاولة لكسر أي صوت جمهوري في المحافظة.
المليشيا اختطفت في حملتها نحو 100 شخص من نخب وكوادر المحافظة، وتخفيهم بشكل قسري في سجونها وترفض الإفراج عنهم، دون تقديم أي مبرر قانوني، فيما فشلت كافة الجهود المحلية والمجتمعية للإفراج عنهم أو معرفة أوضاعهم الصحية ومكان احتجازهم.
ويرى حقوقيون أن المليشيا ترتكب جريمتها وهي في مأمن من غياب أي مناصر لهؤلاء المختطفين أو أي تفاعل إعلامي مع قضيتهم بعد أن قضت على المنظمات الحقوقية والمدنية واتهمت العاملين فيها بالتجسس ووصلت لحد أن اختطفت العديد منهم. كما قامت بتهديد الناشطين والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي وأجبرت الكثير منهم للعمل لصالحها أو الصمت.
الناشط الحقوقي ورئيس منظمة رصد للحقوق والحريات، عرفات حمران، يصف ما يجري بأنه جريمة مركبة، حيث قال جرائم الاختطاف والإخفاء القسري من أخطر الانتهاكات، إذ تشمل عدة جرائم متداخلة ودورنا كمنظمات محلية هو الرصد والتوثيق والضغط على الجهات الأممية والوطنية حتى لا تضيع حقوق الضحايا، لكننا نواجه صعوبات كبيرة بفعل القبضة الأمنية التي تفرضها المليشيا في مناطق سيطرتها وإغلاقها لجميع المنظمات المستقلة.
ويضيف حمران في حديث لـ "إب بوست"، أن من أبرز التحديات شح الإمكانيات المادية وغياب أي دعم رسمي لجهود التوثيق، فضلاً عن خوف أسر الضحايا من الإبلاغ نتيجة التهديدات المباشرة التي تطلقها المليشيا. مشيراً إلى أن بعض الأسر تتعرض لابتزاز مالي مقابل وعود كاذبة بالإفراج عن ذويها، ما يضاعف مأساتها الاقتصادية والنفسية.
وأكد حمران أن منظمته ستعمل على إيلاء الملف كل الاهتمام حتى يصل صوت الضحايا إلى المنظمات الأممية والدولية، ونوثق الجرائم لتقديمها أمام الجهات المختصة حتى لا يفلت الجناة من العقاب.
جريمة ضد الإنسانية
من جانبه، يؤكد المدير التنفيذي لمنظمة الجند للحريات وحقوق الإنسان، الدكتور عبدالوهاب محمد، أن توصيف هذه الجرائم من منظور القانون الدولي واضح وصريح: الاختطاف والإخفاء القسري جريمة ضد الإنسانية متى ارتكبت بشكل واسع ومنهجي ضد المدنيين، وهذا ما يحدث فعلياً في إب وعدة محافظات أخرى.
ويستشهد الدكتور عبدالوهاب محمد بنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية واتفاقية حماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري، ليؤكد أن ما يجري في إب يندرج ضمن هذه النصوص القانونية، مشيراً إلى أن المحكمة الجنائية الدولية تختص بهذه الجرائم إذا ارتكبت ضمن هجوم واسع النطاق وكان مرتكبها على علم بأنها جزء من سياسة ممنهجة.
وأضاف في تصريح لـ "إب بوست"، أن القوانين اليمنية تجرم أي احتجاز غير قانوني أو اختطاف وتعتبره إعداء على الحرية والكرامة الإنسانية، مع عقوبات تصل إلى الإعدام إذا ترافق الاختطاف مع تعذيب أو قتل.
ودعا المسؤول الحقوقي إلى توثيق كل حالة اختفاء ورفع دعاوى قضائية أمام المحاكم في المناطق المحررة، إضافة إلى الضغط على مجلس الأمن لإحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، مشيراً إلى أن غياب تحرك رسمي جاد لملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم قضائياً يشجع على استمرارها ويكرّس الإفلات من العقاب.
تُهم كيدية
حين تريد المليشيا الانتقام من أحد تبتدع له أي ذريعة وما أكثرها، غير أن استخدام الملف الأمني عادة ما يكون أكثر تلك الذرائع، وفي حالة نخب إب وكوادرها الذين اختطفتهم المليشيا، تشير المصادر إلى أنها حاولت إلصاق تهمة "التخطيط للسيطرة على المحافظة" لكن تلك الذريعة لم يصدقها أحد باعتبار أن المختطفين جميعهم مدنيين ولا صلة لهم بالجانب العسكري.
المليشيا عادت وعبر قياداتها في المحافظة الترويج للحديث عن أن هؤلاء المختطفين "خلايا نائمة تابعة لإسرائيل"، وهي التهمة التي لاقت سخرية وتهكم من المجتمع الذي يعرف جيداً أبنائه الذين تربطهم صلة روحية بفلسطين والقدس كقضية إسلامية مركزية.
واعتبر حقوقيون أن تشويه صورة المختطفين وضرب سمعتهم معنويا جريمة إضافية تضاف إلى سجل الجرائم الكثيرة التي ارتكبتها المليشيا بحق عقول إب وكوادرها، وقالوا إن تلك الجريمة لا تقل بشاعة عن جريمة الاختطاف والإخفاء القسري.
ورغم مرور 100 يوم وأكثر على اختطاف هؤلاء الكوادر ترى أسر وأهالي المختطفين أن قضية أبنائهم تذهب من يوم لآخر إلى أدراج النسيان، داعية الإعلاميين والناشطين إلى حملة مناصرة لأبنائهم وتسليط الضوء على قضيتهم الحقة والمعاناة التي يواجهونها.
معاناة
إلى جانب معاناة المختطفين تبرز معاناة أسرهم بشكل كبير وكان جلياً خلال المدة الماضية رسائل أبناء وبنات المختطفين على مواقع التواصل، والتي تعبر عن حجم كبير من الألم والحرمان والمعاناة التي يعيشونها في ظل غياب آبائهم خلف القضبان ورفض الإفصاح عن أي معلومات بشأن أماكن وظروف احتجازهم.
ويؤكد حقوقيون ونشطاء إنسانيون، أن معاناة الضحايا لا تنتهي عند لحظة الاختطاف، بل تبدأ رحلة قاسية من الألم النفسي والاجتماعي والاقتصادي لأسرهم. فغالباً ما يكون المختطف هو رب الأسرة ومصدر دخلها، ما يترك العائلات أمام واقع مأساوي من الفقر والنزوح القسري بحثاً عن الأمان بعد الإفراج.
وتشير التقارير الرسمية والحقوقية إلى نزوح أكثر من 200 فرد و70 أسرة من إب إلى محافظة تعز، خلال الشهرين الأولين من الاختطاف، فيما تم تسجيل نزوح 74 أسرة و144 شخصاً من المحافظة إلى مأرب الشهر الماضي، هروباً من بطش المليشيا.
ووفقا لمراقبين فإن استمرار هذه السياسة يهدف إلى إخضاع المجتمع وتجريده من قياداته، وضمان بقاء الناس أسرى الخوف والهيمنة. ومع غياب تدخل فعّال من الحكومة الشرعية أو المنظمات الأممية، تتحول إب إلى صورة مصغرة عن اليمن الذي تحاول المليشيا إعادة تشكيله وفق مشروعها، ولو كان الثمن تغييب عشرات النخب والكفاءات خلف القضبان.