اب بوست-متابعات
أنين خافت يخترق القضبان.. رسائل ذوي المختطفين لأقاربهم تكشف الجزء المنسي من المأساة
في زاوية مظلمة من اليمن، حيث يخيم الصمت على بيوت كانت تعج بالحياة، تكتب عشرات الأيدي الصغيرة والكبيرة رسائل مليئة بالشوق والحزن، موجّهة إلى آباء وأبناء غيّبتهم سجون الحوثيين.
من "بنت اليوسفي"، التي تقول إن مئة يوم من الغياب جعلتها تكبر ألف عام، إلى زوجة "أوراس الإرياني"، التي أعلنت هزيمتها، إلى "ملاك الشهاري"، التي ترى في غياب عمها مدرسة للثبات، و"محمد" ابن صالح العفيف، الذي يتلعثم في شرح غياب جده، إلى "هدى الرضي"، التي تتشبث ببقايا الأمل.
كل رسالة تحمل بين طياتها حكاية إنسانية ترويها قلوب ينهشها القلق ويدمرها الحزن، وتثقلها مسؤولية غياب المعيل.
إنها شهادات حيّة على معاناة إنسانية لا يمكن تجاهلها، ودعوة للعالم ليرى كيف يحوّل الحوثيون حياة الناس إلى جرح لا يندمل، وكيف يصبح الأمل في الاطمئنان على المعتقلين هو الأمنية الأخيرة التي تتمسك بها هذه العائلات، وهي في ذات الوقت رسالة للقوى المحلية المتخاذلة التي كان اليمنيون يعلّقون عليها أمل الخلاص.
بعد أن تقطعت بهم السبل بحثًا عن أحبابهم المخفيين، وملّتهم الطرقات، وضجر السجّان من أسئلتهم، عادوا إلى صفحاتهم على منصات التواصل لينقشوا عليها لحظات الألم والفقد التي يعيشونها، على هيئة رسائل إلى أحبائهم المغيّبين في السجون، علّ أحدًا يلتقط وجعهم ويعيد إليهم غائبهم.
هذه الرسائل ليست مجرد كلمات على منصات التواصل، بل هي صرخات صامتة تعبّر عن ألم الغياب ووحشة الفقدان.
في كل سطر، هناك قصة طفل ينتظر، وقلب أم يوجعها الفراق، وعائلة تتشبث بالصبر كآخر خيوط الأمل.
"هزمني غيابك "
في رسالة مؤثرة تعكس معاناة ذوي المعتقلين، عبّرت زوجة أوراس الإرياني عن ألمها لغيابه قائلة: "هزمني غيابك، أكتب إليك بقلب مثقل، لكن لا تقلق، لستُ هنا لأزيد من همومك".
وأضافت أنها تكفّلت بسداد فاتورة الكهرباء، وطلبت تحويل الفواتير المستقبلية إلى رقمها الخاص حتى لا تصله أي إزعاجات.
كما ذكرت أن صاحب البقالة، الذي اعتاد التواصل معه، اتصل هذه المرة ليس للمطالبة بالديون المتراكمة، بل للسؤال عن أحواله.
"مئة يوم مرّت يا أبي وكأنها مئة قرن من الوجع..."
تكتب "بنت اليوسفي"، التي كانت تعتمد على والدها في كل شيء، من حل الواجبات المدرسية إلى مشاركتها أحلامها الصغيرة.
اليوم، أصبحت هي من تواسي والدتها وتتحمل مسؤوليات أكبر من عمرها.
"غيابك امتحان صبر، لكنني أرفع رأسي بك فخرًا"، تضيف في رسالتها التي تعكس نضجًا اضطرتها الظروف أن تعيشه قبل الأوان.
"تسعون يومًا يا عمّي، ليست مجرد أرقام في تقويمٍ بارد، بل هي جرحٌ مفتوح في قلوبنا"، تقول ملاك الشهاري، التي كانت تعتبر عمها بمثابة أب ثانٍ.
ملاك، التي تعلمت من غيابه أن "الأرواح الكبيرة لا تحبسها جدران"، تفتقد صوته الذي كان يملأ البيت طمأنينة. "نحن نراك في قوتنا حين نضعف، وفي صبرنا حين نتألم"، تكتب بثقة، لكن قلبها يفضحه ألم لا يُحتمَل.
"ثلاثة أشهر مرت كأنها دهر... والبيت غارق في صمت موجع"، يروي محمد، ابن المعتقل صالح العفيف، الذي يجد نفسه اليوم في مواجهة أسئلة بريئة لا يملك إجابات لها.
"يسألني أطفالي: 'أين جدي؟ متى سيعود؟' وأنا أتلعثم: 'سيأتي قريبًا'"، يقول محمد، الذي ترك غياب والده اسئلة بدون إجابات على وجوه أطفاله الصغار.
غياب والده لم يؤثر فقط على حياته، بل على جيل كامل من أحفاده الذين حرموا من حنان الجد.
"السلام عليك يوم فاض شوقي إليك حتى أحرق صدري..."
تكتب بنت إسكندر، التي كانت تعتبر والدها "جبلًا" يحميها. اليوم، تشعر بالضعف دون وجوده. "تمنيت لو أني فقط أسمع صوتك أو أرى وجهك"، تكتب بيد مرتعشة وعينين دامعتين، بينما تقول والدتها إنها أصبحت أكثر انطواءً وتسأل دائمًا: "متى سيعود أبي؟".
"خمسة أيام مرّت... كل يوم أنتظر اتصال زوجي وكأنني أتشبث ببقايا الأمل"، تقول هدى الرضي، التي تنتظر سماع صوت زوجها المعتقل. "هل أصبح سماع صوته مطلبًا صعب التحقيق؟"، تتساءل هند الرضي بقلب مكسور.
"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، تضيف هند في نداء إنساني يهز القلوب.
"متخيلين شعور أنك تجهّز ليوم كنت تحلم فيه... وتحلم تشوف فرحة أبوك وفخره فيك في يوم تخرجك؟"، يتساءل شهاب العنوة، الذي حُرم من وجود والده في يوم تخرجه. "بنحرم منها أنا قبل أبي... بنحرم تباريكك، بنحرم فرحتي في وجودك"، يكتب بمرارة. "فك الله أسرك وفرّج عنك وردّك إلينا وأنت بألف خير وصحة وسلامة"، يختم رسالته.
منذ أن سيطرت جماعة الحوثيين على صنعاء مطلع العام 2014، ملأت سجونها بالمعتقلين، آلاف الأشخاص كانوا آمنين في ديارهم حتى باغتتهم الجائحة الحوثية، لتجعل أسرهم وأصدقاءهم في حزن دائم.
وفقًا لمنظمات حقوقية، هناك الآلاف من المعتقلين والمغيبين قسرًا في سجون الحوثيين، معظمهم دون تهم واضحة أو محاكمات عادلة.
هذا الغياب لا يترك فراغًا في البيوت فحسب، بل يترك جرحًا عميقًا في قلوب الأطفال الذين يكبرون دون آبائهم يقول "امين الشفق" وهو ناشط حقوقي، ومعتقل سابق، يقوم بإعادة نشر قصص المخفيين قسراً ورسائل ذويهم على صفحته في فيس بوك.
ويضيف في ردوده على متابعيه: هذه الرسائل ليست مجرد كلمات، بل هي نداء من قلوب صغيرة تنتظر عودة أحبائها".
تكتظ السجون الحوثية بآلاف المعتقلين من جميع شرائح المجتمع، تربويين، أطباء، أكاديميين، طلاب مدارس، ورجال دين، وعشرات العاملين في المجال الإنساني.
قبل أسبوعين شنت الجماعة الحوثية مئات الاعتقالات بسبب الاحتفال بذكرى ثورة سبتمبر 1962 التي أنهت الحكم الإمامي.
اعتبر الحوثيون الاحتفال تحديًا لسلطتهم، وتحريضاً على حكمهم الذي يعتبرونه امتداداً لذات الفكرة "الإمامة المستندة على فكرة الولاية والحق الإلهي الحصري لذرية النبي في الحكم"، مما أدى إلى مداهمات واسعة واعتقالات تعسفية.
يُحتجز المعتقلون في ظروف قاسية، بعيداً عن العالم الخارجي، ولا تعرف أسرهم عنهم شيئاً وتُعد هذه الاعتقالات جزءًا من نمط قمع سياسي وطائفي بغيض.
منذ مايو 2024، اعتقل الحوثيون 13 موظفًا أمميًا وأكثر من 50 من العاملين في منظمات مدنية وإنسانية، وفقًا لهيومن رايتس ووتش.
في يناير 2025، أُضيف 8 موظفين أمميين آخرين، ليصل إجمالي المعتقلين إلى أكثر من 65. بدون تهم واضحة، غالبًا تهمة "التجسس" جاهزة للجميع ويواجهون التعذيب والإهمال الطبي.
في فبراير 2025 توفي موظف في برنامج الأغذية العالمي بسبب الإهمال، إلى جانب وفاة هشام الحكيمي الذي كان يعمل في منظمة (سيف ذا تشيلدرن) في 2023.
و تسببت هذه الاعتقالات للموظفين الامميين في تعليق عمليات الأمم المتحدة في مناطق الحوثيين، مما يهدد المساعدات لـ18.2 مليون يمني.
في ظل استمرار الاعتقالات التعسفية والانتهاكات في معتقلات الحوثيين، يظل آلاف اليمنيين، محاصرين في دوامة من التعذيب والإهمال والاختفاء القسري.
هذه الجرائم، التي وثقها الأهالي والموطنين والمنظمات الدولية ليست مجرد انتهاكات لحقوق الإنسان، بل تهديد مباشر للأمل في استقرار اليمن.
المصدر أونلاين