صلاح الطاهري -خاص
في مدينة إب، المدينة التي كانت تُعرف يوماً بـعاصمة الوعي والأنس، يعيش اليوم صدى وجع طويل لا ينتهي، وجع اسمه محمد مارش السلمي — ذلك الرجل الذي أفنى عمره في ميادين الخير والعطاء، وها هو اليوم يُصارع الموت في زنازين لا تعرف سوى القسوة، بعد أن حولتها ميليشيا الحوثي إلى مقابر صامتة للأحياء.
محمد مارش، الاسم الذي يعرفه الفلسطينيون جيداً من خلال جمعية الأقصى، تلك اليد اليمنية البيضاء التي إمتدت إليهم في المخيمات وفي الداخل الفلسطيني، يحمل اليوم قلباً أنهكه المرض وجسداً أنهكه السجن، بعدما أجرى قبل إختطافه بثلاثة أشهر فقط عملية قلب مفتوح، ويعيش بنصف جمجمة نتيجة حادث مروري قديم، لتضاف إلى جراحه جريمة إختطاف لا يبررها سوى حقد أعمى وخوف من كل صوت نقي.
لم يكن محمد مارش يوماً طرفًا في صراع أو سلاحاً في يد أحد، بل كان مشعلاً من مشاعل الإحسان والإيثار، يعمل في الظل بصمت، ويزرع الخير حيث لا يراه إلا الله. لكن الحوثيين، الذين لا يطيقون رؤية النور في الوجوه، وجدوا في إنسانيته تهديداً، وفي عطائه خطراً، وفي محبته لفلسطين جريمة تستوجب العقاب. فكان جزاؤه أن يُختطف من بين أسرته، ويُزج به في سجن الأمن السياسي في إب، حيث بدأت رحلته الطويلة مع الألم والغياب.
قبل أيام، نقلت المليشيا محمد مارش إلى أحد مستشفيات المدينة في حالة غيبوبة هي الثالثة خلال أسبوعين فقط، وفقاً لتقارير منظمة رصد للحقوق والحريات التي أكدت أن حالته الصحية حرجة للغاية.ورغم ذلك، تمارس ميليشيا الحوثي تعتيماً كاملاً على وضعه، وترفض تمكين أسرته أو محاميه من الإطلاع على مصيره.إنه سلوك يتجاوز حدود الإنتهاك إلى مستوى الجريمة الموصوفة، ويكشف عن إستخفاف مطلق بالقوانين الإنسانية والدولية التي تحمي حياة المحتجزين، خصوصاً أولئك الذين يعانون أمراضاً مزمنة.
إن إختطاف رجل مريض عاش عمره في خدمة القضايا الإنسانية ليس فعلاً عابراً؛ إنه بيان كراهية معلن ضد كل قيمة نبيلة.إنها رسالة تقول بوضوح "كل من يفكر خارج طوق الجماعة، حتى لو كان مخلصاً للأمة، فهو عدو".ولو إمتد نفوذ هذه الميليشيا إلى غزة – كما قال أحد المقربين من محمد مارش – "لاعتقلت المقاومين أنفسهم، لأنهم ببساطة لا يتبعون عقيدتها المظلمة".ذلك هو جوهر فكرهاتكفير كل من يخالفها، ولو كان يقاتل الصهاينة.
اليوم، يئن محمد مارش بين الحياة والموت، بينما أسرته تتوسل العالم أن يسمع، والمنظمات الدولية تكتفي بالصمت الذي يقتل مرتين.
أين الأمم المتحدة؟ أين المبعوث الأممي؟ أين الحكومة اليمنية التي يفترض أن تكون حامية لأبنائها؟
أين الضمير الإنساني الذي يحتفي بيوم المعلم ويوم الصحفي ويوم الطبيب، لكنه يعجز عن الإحتفاء بالإنسان نفسه حين يكون خلف القضبان؟
إن إنقاذ حياة محمد مارش ليس مطلباً حقوقياً فقط، بل إختبار حقيقي لإنسانيتنا جميعاً.فحين يُترك رجل بنبله وإنسانيته وصلاحه، وبتاريخه، وبدوره في دعم الشعب الفلسطيني، ليواجه الموت في زنزانة مغلقة، فهذا يعني أن الظلم لم يعد سياسياً فحسب، بل أصبح ثقافة سلطة لا تؤمن إلا بالقسوة، وتتعامل مع الرحمة كتهديد وجودي.
محمد مارش السلمي ليس مجرد مختطف آخر في سلسلة طويلة من ضحايا الحوثيين،إنه ضمير مدينة بأكملها،ورمز لوعي بلد أُختُطف فيه النور، واعتُقل فيه الإحسان،حتى صار فعل الخير نفسه تهمة،وصار الصمت عن الجريمة مشاركة فيها.
فليُكتب هذا الإسم جيداً…محمد مارش السلمي — الإنسان الذي أُطفئ قلبه ليبقى ضوءه شاهداً على ظلام لم يعرف الرحمة.








