صلاح الأصبحي-خاص
لم تشهد اليمن خطرًا كاللحظة الراهنة؛ حتى وضعها قبل قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر، رغم بشاعته، لم يكن بهذا السوء؛ لأنها كانت فيه تلملم قواها وتشد أزرها لتتعافى وتتحرر وتؤسس لبناء مستقبل. أما الآن فإنها تتقهقر، وترتد عكسيًا باتجاه الماضي، وفقدان إرادتها الداخلية الحرة وكرامتها الجمعية وهويتها الواحدة.
تطوقها مخافتان تسعيان لوأدها وإسدال الستار عليها، هما: الكهنوت والانفصال. الأولى طامحة بإعادتها إلى زنزانة الماضي، وتحفيز مجاراة هذا الفعل جنوبًا، فولدت الثانية في رحم الانتقالي الذي شرع لتوه في البتر جغرافيًا وسياسيًا، لتكتمل شروط الإعاقة للحاضر والمستقبل.
لا تكمن الإشكالية في هذه الحالة الإكلينيكية الجديدة لليمن، بل في فرضها كواقع حتمي، وحقن الوعي الجمعي بالتقبل، وتبرير وجوده كمآل أخير لا مفر منه، من قِبل كيانات مشكوك في وطنيتها وغاياتها تعمل كأجندة حاليًا، وكانت سابقًا جزءًا من الكهنوت الانقلابي، وحين استقلت عنه اصطفت إلى جانب طرف الانفصال، واشتركت معه بتبعيتهما لجهة واحدة تمولهما وترعى خطرهما.
ظلت الشرعية طيلة عقد تتشكل ككيان موحد وسلطة قائمة معترف بها دوليًا كواجهة موازية للانقلاب تسعى لدحره، ولأجل ذلك ضمت في طياتها تلك الكيانات المغايرة لأهدافها تحت يافطة الاصطفاف الوطني، وتبين مؤخرًا أنها كانت مسخرة لخدمة تلك المشاريع الجزئية التي انقلبت عليها، وتجاوزت شرعيتها، ونسفت قيمتها، وبعثرت سيادتها.
هذه الانتكاسة المدوية وضعت اليمن في فوهة مدفع لتُقذف مرة أخرى على يد الانتقالي بعد قذفها من قِبل الحوثي في 2014، ليبدو التأزم وجوديًا يهدد مصير اليمن كدولة، واليمنيين كشعب فشل مرتين في استعادة إرادته والحفاظ على ثوابته.
ولذا فإن الهزيمة تبدو شبه ذاتية، ستؤدي إلى تدهور مريع يخرج اليمن عن سياق البقاء قادرًا على مواجهة الحوثي ونسق بقائه موحدًا، وبات الاتكاء على الموقف الإقليمي والدولي هو الأمل الأخير المتبقي لإعادة المياه إلى مجاريها، وردع تلك التطورات الأخيرة في شرق البلاد، التي فتحت مزادًا لقادم مضطرب ومشروعية مستلبة.
والمحزن في الأمر أن النخبة السياسية الحاكمة باسم الشرعية لم تستوعب الدرس من إخفاقها في حدوث الانقلاب الحوثي وتعذر هزيمته، وتراخيها في الجانب الآخر المحرر؛ تراكم الأخطاء وترعاها وتتغاضى عنها وتتخذها جزءًا منها، إذ تماهت مع الظواهر اللاوطنية سياسيًا وعسكريًا، وسمحت بانزلاق السلطة التي تمثلها، وأفسحت الطريق لتوطين تشكيلات عسكرية على الأرض ليس لها سلطة عليها ولا ولاء لتلك الشرعية الشكلية، حتى غدت الأخيرة ساحة مفتوحة لتناقضات قاتلة لها.
والمفزع في هذه الحالة موضعة هذه المستجدات لتبدو منطقية باعتبارها محطة يجب أن تصل إليها اليمن، وليس في ذلك ضرر حسب تلميع بعض النخب المأجورة التي قلبت موازين الحقائق وخدمت الانقلاب الحوثي، والآن تسير على نفس الوتيرة؛ فطغى حضورها وانحسرت الأصوات الوطنية التي يتم إخراسها باحتساب آرائها على حزب أو طرف.
ومهما تشعبت التقييمات سيبقى السبب الجوهري الذي أوصل البلد إلى هذا المستوى متمثلًا بتركها في منطقة ضبابية متوسطة، سنحت لتداخل وتضارب كل المفاهيم والمواقف والأحداث والأفعال، وجعل هذه الثيمة أفقًا مخيمًا عليها؛ فمن ساندها لم يتجاوز دعمه لها هذه النقطة الفاصلة، وإعاقتها إن تمردت على هذا الحد، وكل ما يحدث لها طيلة عقد يقف خلفه هذا النسق المضمر، حيث سيؤول مشروع الانفصال باتجاه هذا النفق الرمادي.
وبناءً على ذلك، فالخلاص لن يحدث إلا إذا كُسرت هذه القاعدة وتعطلت فاعليتها، سواء جاء ذلك من خلال تخلي الأشقاء والمجتمع الدولي عن هذه الاستراتيجية خشية مخاطرها المستقبلية، أو من خلال تغير الموقف الوطني لقوى الداخل والتضحية بمصالحها المتعلقة بذلك النمط، واختيار مسار وطني آخر، وإجبار الفاعل الخارجي على تقبل خيارها الجديد، وتهيئة الأجواء سياسيًا وعسكريًا وفقًا لهذا الطموح؛ حينها ستظفر اليمن بمستقبل، وإلا ستموت وحيدة في جليد تلك اللعنة.
يمن شباب نت








