ياسين التميمي-متابعات
الثاني والعشرون من أيار/ مايو يوم فارقٌ في تاريخ اليمن المعاصر، ففي هذا اليوم من عام 1990 توحد شطرا اليمن وتأسست الجمهورية اليمنية، التي وضعتها الحرب المستمرة منذ نحو عقد على المحك وبات النكوص عن هذا الإنجاز التاريخي مسارا منفصلا على طاولة الحل السياسي للأزمة اليمنية، مُعززا بالتوافقات والاتفاقات التي تشير بوضوح إلى ضلوع أطراف إقليمية في استهداف الوحدة اليمنية.
الوحدة اليمنية كحدث جيوسياسي تمت قراءته في المحيط الإقليمي كمهدد محتمل، لهذا جرى الاستثمار في الصراع حول السلطة الذي نشب في أعقاب الانتخابات البرلمانية في 27 نيسان/ أبريل عام 1993، بين شريكي الحكم: المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، وتغذية التوجه نحو إعادة النظر في الوحدة برمتها، وهو أمر تصاعد إلى مرحلة الانسداد السياسي بعد النجاح في إجراء حوار أفضى إلى اعتماد "وثيقة العهد والاتفاق" في شباط/ فبراير 1994، في القصر الملكي في العاصمة الأردنية عمان.
بعد ذلك بنحو عقد من الزمن بدا أن التوجه لإعادة اليمن إلى سابق عهده من التشطير وتعدد الوحدات السياسية، هو المحرك الأبرز للتدخل الإقليمي الخشن في الأزمة اليمنية والذي تطور من مجرد دعم عملية مغامرة لتقويض السلطة الانتقالية التوافقية؛ إلى التدخل العسكري واسع النطاق، الذي أخرج اليمنيين كلية من دائرة التحكم بالأزمة وبقرار الحرب وحولهم عمليا إلى أطراف مرتهنة أو مشلولة، ويعمل معظمها بالوكالة ولديها الاستعداد الكامل لتقويض الوحدة وإن كان البديل التجزئة والمجهول السياسي.
وبسبب هذا التوجه والمال السياسي الذي يعززه، تحول أعظم إنجاز وحدوي عربي قابل للحياة، إلى "مكسر عصا"، تتبارى الخلايا الإلكترونية والناشطون والكتاب المحسوبون على المخطط الإقليمي التدميري؛ إلى التحريض عليه والتسقيط من مكانته التاريخية وتحميله وزر كل ما حدث ويحدث في اليمن.
ومع ذلك لم تنجح الإيحاءات السياسية التي يتم تصديرها عبر أكثر الوسائل الإعلامية تأثيرا إلى وعي اليمنيين؛ إلا في جذب قطاع محدود من السكان في جنوب البلاد، في حين بَقَيَتْ الكتلةُ الديموغرافيةُ الضخمةُ متمسكة بالوحدة اليمنية، ولم تفقد إيمانها بالإنجاز الوطني العظيم الذي تمثله.
التهديد الأبرز لكيان الدولة اليمنية يأتي اليوم من مشروعين سياسيين مدججين بالسلاح ومتحكمين بالجزء الأكبر من الجغرافيا والسكان، أحدهما يقوده الحوثيون وغايته إعادة إحياء دولة الإمامة الزيدية؛ مع ميل نحو تكريس نموذج سلطوي أكثر تعقيدا يستلهم نموذج الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أما المشروع الثاني فهو دولة غير واضحة الملامح في جنوب اليمن بقيادة المجلس الانتقالي؛ الذي يشكل إلى جانب جماعة الحوثي الاستثمار الجيوسياسي الإقليمي الأكثر عدائية للدولة اليمنية ونظامها الجمهوري وللوحدة اليمنية.
تكمن الإشكالية الكبرى التي اكتنفت هذا الإنجاز في أن الذين حازوا شرف تحقيقه لم يكونوا من صنف الآباء التاريخيين والقيادات الملهمة، بل أشخاص سجلّهم السياسي والقيادي مثقلٌ بالأرزاء والتجاوزات والعمل خارج الأجندة الوطنية، ولطالما تصرفوا مع الوحدة والدولة التي أنتجتها باعتبارهما مكسب سلطوي جهوي وحزبي.
تجلى هذا الأمر بشكل واضح وقوي وفعال في سلوك علي عبد الله صالح، رئيس الجمهورية العربية اليمنية السابقة، الذي تسلم رئاسة الدولة الجديدة، وقام باستغلال الحركة الإسلامية في ترويض واحتواء الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يقود جمهورية اليمن الديمقراطية، وفتح قنوات اتصال نشطة مع القادة الجنوبيين في شمال اليمن والمهجر، وهم يمثلون إرث النزاع السياسي والسلطنات والمشيخات (وحدات سياسية ذات سيادة محدودة كانت تخضع للحماية البريطانية في جنوب اليمن)، وغذّى النزعة الانتقامية لديهم في محاولة لتسويد قواته التي سيخوض بواسطتها معركة إقصاء الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة في صيف 1994.
وفي المقابل، كان الحزب الاشتراكي اليمني يستمد نفوذه السياسي من مئات الآلاف من منتسبيه في شمال اليمن، وزاد على ذلك أن بدأ ببناء شبكة نفوذ وتحالفات سياسية غير مجدية؛ في أوساط القيادات الاجتماعية والمرجعيات الزيدية أملا في تعززي موقفه أمام شريكه في الوحدة، غير أن انتخابات 27 نيسان/ أبريل 2003 البرلمانية ونتائجها حولت الحزب إلى قوة سياسية ثالثة، مع فارق أنه كان لا يزال يحتفظ بالإمكانيات العسكرية للدولة الجنوبية، ومع ذلك ظل عاجزا عن التعامل مع الاستهداف الأمني المتتالي والمباشر لقياداته وكوادره الذين توزع دمهم بين عناصر مجهولة أو متطرفة.
افتقد الزعماء الذين وقعوا على "وثيقة العهد والاتفاق" الناتجة عن الحوار الوطني للمصداقية والنزاهة الوطنية، فقد انفضوا بعد توقيع الوثيقة وهم يضمرون النوايا السيئة، فاتجه زعيم الحزب الاشتراكي اليمني ونائب رئيس الجمهورية علي سالم البيض نحو العاصمة السعودية الرياض، ومنها بدأ جولة خليجية، وسط تساؤلات عن
مغزى تلك الجولة، في حين عاد صالح وحلفاؤه إلى صنعاء ليحدث التحول الأسوأ في الموقف الأمني والعسكري بعد استهداف المعسكرات الجنوبية في كل من مدينة عمران شمال العاصمة صنعاء، ومدينة ذمار جنوب العاصمة، وسرعان ما أفضى هذا التحول الخطير إلى حرب شاملة عُرفت بحرب صيف 94.
لقد انتصر الطرف الشمالي في تلك الحرب، لكنه تقاسم ذلك الانتصار مع قطاع لا بأس به من الجنوبيين الموتورين من الجمهورية الجنوبية ومن الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يحكمها. لذا لا يمكن النظر إلى ما حدث في صيف 94 إلا باعتباره تقويضا للنموذج المثالي للوحدة اليمنية؛ الذي جمع بين الاستحقاق التاريخي والتطلع الوطني والفخر الإنساني، فقد تحول هذا الحدث المجيد إلى عملية توحيد معمدة بالدم عكست بكل وضوح الأنانية السلطوية الجهوية المقيتة والأحقاد السياسية المتراكمة، وهو أمر لم يحصن الوحدة بل دفع بها إلى أن تتحول كما نشاهد اليوم؛ إلى تركة مهدرة وسلعة رخيصة في بازار المزايدات السياسية الحمقاء.
عربي21