صلاح الأصبحي-متابعات
حرصت لسنوات التغاضي عن موضوع صدمني شخصياً، وأثار حيرة الأوساط اليمنية والقوى الوطنية في سياق معركتنا الوجودية مع الحوثية الإمامية، لكن ما تفشى مؤخراً من تخاتل مريب حول تدافع الكثير ممن ينتمون إلى الصف الجمهوري والمؤيدين للشرعية اليمنية للترحم على عنصر حوثي لقى مصرعه، وكأن الخلاف القائم بيننا وبين أعدائنا مجرد شجار عابر لا يستحق القطيعة ويمكن غفران جرائمه بيسر.
والقصة هنا تدور في ذات السياق، حول المدعو( منير عوض) الشاب اليمني الذي ظهر في الآونة الأخير بمقابلات تلفزيونية في قنوات حوثية وإيرانية منظراً للإمامة بصورة تجاوزت تنظيرات الشيعة أنفسهم، معتبراً ما يسمى بالإمام من منظور الإثنى عشرية سبباً في نزول المطر وشروق الشمس والرزق.
والغريب في الحكاية أن هذا الشاب كانت تربطني به صداقة عقد وزمالة جامعية لأربع سنوات، تخرجنا معاً من قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة تعز 2010، حصد هو الترتيب الأول وأنا الثاني في الدفعة، ومن ثم تعين معيداً في القسم، ولم تنقطع الصلة بيننا بعد التخرج، فهناك صلة إبداعية أخرى جعلتنا قريبين أعمق، فقد كان شاعراً حداثياً صاحب اهتمام إبداعي جامح، وكان اهتمامي في المقابل منصباً على النقد الأدبي تخصصاً وممارسة، وكنتُ أرافق تجربته لحظة بلحظة وأكتب عنها مقالات وأبحاث نقدية في صحف محلية ومجلات عربية باعتباره مبدعاً واعداً في كتابة قصيدة النثر من جيل الشباب من شعراء اليمن.
طبعاً لم تكن ثقافته وتكوينه المعرفي وتجربته الشعرية تتسم بشيء من الرجعية وتمجيد الماضوية بل كانت حداثية بحتة تحررية تقدمية متنصلة عن أية أيديولوجيات أو الاقتراب من الإرث الفكري والثقافي المتطرف المقدس للخرافات أو المبجل للاستسلام لكل الحقائق الثابتة في الوعي وفي السلوك والتفكير، لم تكن هناك أية مؤشرات تلمح لما ستؤول إليه شخصيته وموقفه الثقافي والسياسي، وهذه الصدمة كانت هي مصدر الحيرة والازدراء من حالة السقوط المدوية واختياره طريق التطرف الرجعي المنحاز للتشيع الإمامي المقيت.
وبما أن هذا الاختيار المنحرف الذي سلكه لا يمكن تقبله مهما كانت الروابط المتصلة والقواسم المشتركة بيننا في حقيقة وجودية مفصلية كثوابت إنسانية وإرادات مصيرية، فذابت كل تلك الذكريات وتحولت إلى غصة جارحة في الذات ولحظات مأساوية باعثة للاشمئزاز أحاول تجاهلها كلياً، باعتبارها عدائية مطلقة، وشر محض ضد إنسانيتي وقيمي ووجودي، وانتصاب أكوام من الكراهية والنبذ والاستهجان لذلك التحول المريع والعبودية المذلة المناقضة للفطرة والمعادية للذات والهوية والجغرافيا والإنسانية.
كان آخر لقاء جمعني به في زفافه البائس- الذي قاده إلى تلك الهاوية- في 2016 في مدينة إب ومصاهرته لأسرة هاشمية سلالية أغرقته في مستنقعها واستعبدت فكره وموقفه ليغدو تابعاً للفكر الحوثي ومشروعه التدميري، وبما أن ذلك المشروع الخبيث خبير باصطياد فرائسه ومتفنن في ترويضها لصالحه، كان ابن عوض صيداً ثميناً تم استثماره بعنايه، بعد أن عمل في بادئ صلته بهم في التوجيه والتعبئة ونشر الأفكار السلالية وإلقاء الخطب في أماكن تجمع المليشيات في معسكراتهم وتجمعاتهم وثكناتهم الجهادية، فتجلت مواهبه وبرزت قرائحه في ترسيخ الزيف وتمجيد التشيع وتلميع فكر السلالة بولاء فريد وقدرة في تصوير المآثر وربطها بالمعتقدات الدينية والاجتماعية من خلال امتلاكه لفلسفة شعرية وقدرات بلاغية وتسخير تام لكل مواهبه في ترسيخ الفكر الإمامي، ليظفر بعدها بمنحه إلى "قم" في إيران وتحايله بالسفر إلى السودان لدراسة الماجستير على حساب جامعة تعز كذريعة والغاية كانت مهد التشيع وموطن الخرافة.
الشاهد في هذه الخيبة النخبوية أنها توحي لي بثلاث إشكاليات مؤرقة في لحظاتنا الراهنة، إشكاليات تأزمية عقدت حالتنا اليمنية وقضيتنا الجوهرية ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، الأولى أن التكوين المعرفي لبعض النخب ليس حقيقياً ويغلب عليه التمظهر والحيلة بغية الحصول على فرصة للفوز بمنصب أو مكانة أو مال، ويظل الإلحاح متقداً في أعماق تلك النخب لتحقيق أحلامهم تلك بأية صورة حتى وإن كان على النقيض من المبادئ والأفكار والقناعات التي كانت علامة على شخصياتهم ووعيهم، وقد أثبت واقعنا اليمني بعد الانقلاب سقوط عشرات الأسماء وانحطاط مسارهم مع الفكر السلالي وانتكاس مواقفهم بشكل مريع مثقفين وأكاديميين وكُتاب ومبدعين، مرتكبين خيانة عظمى بحق وجودهم قبل أن يكون بحق وطنهم ومجتمعهم، فتغول الرجعية والشعبوية والطائفية والعبودية كانت هي الثوابت في كياناتهم وما دونها مجرد شعارات باهتة، ومنير عوض خير مثال على ذلك الخلل في تركيبة الشخصية النخبوية اليمنية.
الإشكالية الثانية تتمثل بحالة التماهي مع الإشكالية الأولى، واعتبارها مجرد موقف سياسي عابر لا يفسد للود قضية ولا يحدث قطيعة نهائية مع رموز تلك الخيانة، وهذا أمر أشد وطأة من سابقه؛ لأن التقليل من مخاطر الخيانة والاستباحة للدين والإنسان والوطن بمثابة إسهام لا مباشر واشتراك في التهوين من جرائم إنسانية ومشاريع تدمير أنهكت شعباً ومزقت مستقبل أجيال نتيجة التواطؤ مع فيروس مدمر، وتضليل واحتقار للدماء الزكية التي سقطت في درب مقاومة الفعل السلالي وأتباعه الإرهابيين.
الإشكالية الثالثة أنه يجب أن نكون صارمين في مثل هذه الخذلانات المستهترة بالمبادئ الوجودية الثابتة بالنسبة لكل يمني تجرع كل الويل على يد عصابة قذرة خارجة من أصقاع الجهل والعنف والعنصرية، ويتوجب أن نعيد استنطاق وعينا الوطني ووعي العامة، وأن لا ننهزم نفسياً ونصبح ذواتاً مستلبة في فكرها ووعيها وثقافتها ومواقفها فنقع في قعر الهزيمة والرضوخ ذهنياً قبل أن نسقط سلوكياً وننجر كعبيد.
فتقبل العبودية أمر لا تبرره مصلحة البتة؛ وإنما يفسره اختلال في التنشئة وعاهة في التركيبة الاجتماعية الأولى والسلوك الاجتماعي المتناقض الذي صنع أناساً مشوهين مغايرين للفطرة الحقة المنسجوة بالكرامة والحرية، وإن التخلي عن هاتين السمتين تحت أي مبرر أو ظرف أو فلسفة أو ضغط أو انتماء معناه انسلاخ عن الكينونة الإنسانية والانغماس في كينونة بهيمية فاقدة لمنطق الوجود ومعنى الحياة ومفتقرة للوسائل الحسية والذهنية التي جعلتها تعيش في عالم القطيع وتتغنى بغرائزها وسلوكياتها .
لم تعد تخدعني تلك المطايا بعد منير عوض وغدوت أقيس حقيقة الفرد مهما كانت قدرته على الخداع ومهما ادعى التمدن والتحضر والثقافة والوطنية لأني جرحت عميقاً، ولمت نفسي على ذلك العار الذي أصابني من ثعلب الإمامة ونعل التشيع الذي كان يوماً ما مشروع تنوير وتحرر وأفكاره براقة، لكن التمرد بلا منطق يوقع الواحد في فخ الانسلاخ والتشعب والعجز في عدم التمييز بين المنطق والتطرف كارتداد عكسي متطرف من أقصى اليسار إلى أصقاع اليمين المتخلف.
المصدر: يمن شباب نت