صلاح الأصبحي-متابعات
ظلت اليمن حبيسة الماضي وغارقة في قعره بكل مساوئه وجموده، ولم تخط نحو المستقبل إلا ثلاث مرات في 26سبتمبر و14أكتوبر و22مايو، خطوات صنعت وجوده ورسمت ملامحه الحقيقية في خارطة العالم، فأصبحت هي حقائقه الوطنية المثبتة لحيويته وديمومة حضوره، مما يجعلها حقائق مصيرية غير قابلة للشك، ولا يمكن تجاوزها أو ارتهان بقائها أو نفيها تحت أية ذريعة سياسية أو مصلحة عابرة أو توافق طارئ خارج سياقات هذه الثوابت المصيرية.
وفي الذكرى الخامسة والثلاثين للوحدة اليمنية بدأت تتكشف بعض الانحرافات وتقلب المفاهيم والتصورات السياسية لأطراف سياسية بعينها أو لأفراد تتحذلق على هذه الحقيقة الوطنية المطلقة المرتبطة بمستقبل وطن وحياة شعب تمثل الوحدة له جزءاً حيوياً من كيانه وهويته وانتصاراته، كونها كانت الخلاصة التي تلاقت عندها كل الآمال والأحلام والمصائر اليمنية شمالاً وجنوباً، رسمياً وجماهيرياً، ليس بدافع الشغف أو المصلحة وإنما كحقيقة جغرافية وتاريخية وسياسية، وقدر حتمي يربط الشطرين ويضمن مستقبلهما.
فحين تحققت لم تكن مجرد حدث عابر أو مشروع لحظي طارئ؛ وإنما كان حضورها ماثلاً في صلب الثورتين سبتمبر وأكتوبر باعتبارها الضامن الأساسي لبقائهما، وإرهاصات ومشاورات إنجازها بقي في قائمة أولويات السلطات التي حكمت الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية، ولم يتم تغييب خطابها أو إهمال تحققها يوماً بحسب التاريخ والواقع، لكونها درعاً حصيناً وأفقاً وطنياً براقاً يسطع تحت ظلاله يمن متكامل ومثالي قائم على المصير المشترك والالتقاء الإجباري لاستقامة البقاء وتداخل الأرض والإنسان فيه حد التماهي بين شماله وجنوبه وشرقه وغربه، وتشكلت عبره دولة مدنية ديمقراطية تعددية قائمة على المساواة والمدنية.
ليس ترفاً أو جهلاً بسياقات الوضع القائم اليوم أن ننظر لها كمبدأ ثابت، ويقين راسخ في الوعي السياسي والواقع الاجتماعي، ليس اعتباطاً أن نلتف حولها ونتمسك بصورها ومعانيها، وإنما ينبثق هذا الإصرار من كونها خط الدفاع الأول ضد مشاريع التمزق وكوابيس الضياع ودوافع التشطير التي ستقصم ظهر اليمن، وتعيده ليس لما قبل 22مايو، بل لما قبل 26سبتمبر و14أكتوبر، وقد بدأت ملامح ذلك المصير المشؤوم تطل برأسها بضياع الجمهورية شمالاً وعودة الدويلات والهويات المشتتة جنوباً.
نحن لا ننكر تلك الأخطاء التي أعقبت الوحدة، ولا نرفض تصحيح مسارها ومعالجة جراحاتها، ولكن نرفض تدميرها، واقتلاع جذورها كلياً، نقبل بأية صيغة توافقية وحدوية فيدرالية اتحادية أين كان شكلها، حيث يكون للجنوب أولوية في إدارة الدولة تحت راية الوحدة، طالما أصبح اليمن حالياً في أعقد لحظة تاريخية، توجب التمسك بثوابته كالجمهورية والوحدة، فالتحديات ليست لصالح أحد من ينادي بالتشطير أو من يتعلق بأستار الوحدة، مالم تجمعهما رؤية وطنية متكاملة مستوعبة لمغبة التهور والانزلاق نحو فوهات الجحيم التشطيري والسعير الإمامي.
ثلاثة عقود ونصف من عمر الوحدة تتغلب زمنياً على ما قبلها من عمر السلطة في الشطرين اللذين ظل سعيهما لتحقيقها هاجساً قابضاً على مفاصل الفعل السياسي عندهما، كما لو كانت غريزة فطرية وطنية، وليست نوايا للهيمنة على السلطة والثروة، وبلحظة الخلاف السياسي واقتراف الأخطاء بحق الآخر، يمكن الإفلات والتنصل واستبعاد ذلك المنجز التاريخي العظيم بكل يسر واستهانة كما لو كان لحافاً باهتاً قابلاً للتبرأ منه.
لا يصدر تمسكنا بالوحدة كصمام أمان لليمن - في الحاضر والمستقبل - من شوفينية تعصبية عبيطة أو من منظور ديني أو إيديولوجيا حزبية؛ وإنما من رؤية وطنية مدركة لحقائق التاريخ والجغرافيا والواقع السياسي والربط بين دوافعه ومغذياته وصوره على الأرض، فالتشكيلات السياسية والعسكرية الموجودة اليوم التي تتزعم مشروع فك الارتباط أو من تتواطأ معها - رغم انطوائها تحت مظلة الشرعية اليمنية المعترف بها مقابل سلطة الانقلاب الحوثي- ركبت موجة النفور الجنوبي الذي كان احتوائه وشيكاً في مؤتمر الحوار الوطني، ولولا الانقلاب لتمت معالجته من حينها، وكان امتطاؤها لذلك المشروع بصورة إجبارية وليس تمثيلاً لرغبة اليمنيين في الجنوب، بل وأصبحت عائقاً أمام استعادة الدولة المعترفة بحق الجنوب واستعادة الجمهورية كمشروع وطني جامع سيحقق للجميع كل المطالب المشروعة.
ثمة انفصام وتناقض وهشاشة في إرساء مشروع الانفصال كفكرة أو كوجود في مناطق الجنوب، كونه يغرد خارج السرب، وينساق وراء وعود كاذبة ولا يمت بصلة لصالح بناء دولة كما كانت قبل الوحدة، ولا يمتلك رؤية واضحة وإرادة سياسية عقلانية، لكن طبيعة اللحظة في المشهد السياسي اليمني تتسم بالتناقض والغوغائية وعبثية الأداء السياسي المفتقر لأي أبعاد وطنية، فكانت ملائمة لتفشي ذلك الارتجال التشطيري وتصعيد خطابه إلى مستوى الانجرار الأعمى خلفه، واتخاذه مطية سهلة لتهشيم حقيقية الوحدة وتمييع حضورها.
ومن هنا فإن الوحدة متنٌ وليست هامشاً، حقيقة وليست خيالاً، وليس من المنطق والوطنية والمصلحة العامة تهمشيها وإهمالها والقفز على أهميتها وترسيخ عدائيتها، على كل القوى الوطنية استقراء الماضي والحاضر بعمق، وإدراك أن عبور اليمن نحو المستقبل سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً لن يحدث بدون الوحدة أو صيغة توافقية لها، والتمسك بها ليس إسطوانة مشروخة لوطنية زائفة؛ بل مقياساً لمصداقية الاصطفاف حول مشروع وطني جمهوري، فلا جمهورية بدون وحدة، ولا وحدة بلا جمهورية، والفصل بين المشروعين أو الانحياز لواحد منهما دون الآخر، أو مناصرة المشاريع الضدية لهما بمثابة خيانة جلية منبوذة ولا تمت بصلة للسيادة الوطنية لمشروع بناء دولة أو صناعة مستقبل أو تغيير واقع متأزم أو تحقيق مصلحة عامة للشعب.
المصدر: يمن شباب نت