صلاح الأصبحي-متابعات
استكملت عصابة الحوثي مهمة إهدار حياة خصومها من كل أطياف المجتمع، ولم يتبق أمامها إلا التربويين ليصبحوا ثمرة الموسم للاعتقال والاختطاف وتلفيق التهم، والزج بهم في غياهب السجون، كونهم يمثلون شريحة كبيرة وهامة، وترويعهم ومعاقبة صبرهم درب مجدٍ -في نظر السلالة- له إيجابيات جمة من حيث الكم والكيف، وسيقود إلى طريق التجهيل، وسيزيح خطرًا مهددًا لبلوغ مشروعها مستوى الهيمنة على الإنسان وإعادة هيكلته بما يتناسب مع حلمها.
فَجَعل رموز التربية والتنوير ملاحقين مليشاويًا سيقلل من مكانتهم في نظر المجتمع، ويزيد من ازدرائه لهم، وهم من يقفون حجرة عثرة أمام تفشي الخزعبلات التعليمية والتثقيفية، وإعاقة فرض معلميين تابعين للعصابة، متخصصين في تسويق أفكارها وتلغيم عقول النشء بسمومها.
في الأسابيع المنصرمة وقع العشرات من التربويين ضحايا اعتقال تعسفي، واختطاف مباغت من الشوارع وأماكن عملهم دون سابق إنذار، ولم يعد أحد يستفسر عن طبيعة التُهم الموجهة لهم، فقد غاب هذا التساؤل عن أذهان العامة، ونفيت الحيرة حيال هذه التعسفات الحوثية التي غدت جزءًا من صور الحياة اليومية في مناطق الكهنوت، وحده ما يثير الدهشة تركيز حملات الاعتقال وتخصيصها لمطاردة كوادر التربية والتعليم بشمولية ممنهجة وإصرار متعمد كحصاد أخير يقتلع وجودهم دون تردد بشكل جمعي، وظاهرة مخيفة تثير الرعب في أكثر من مكان.
نالت إب القسط الأكبر من هذه العاصفة السوداء التي شملت مختلف مديرياتها، وجرفت مصابيح النور من كل مناطقها وقراها، وبات المعلمون فيها يعيشون حالة من الذعر والتخفي وترقب مداهمة مساكنهم وترويع أسرهم، فمن حانت ساعته منهم سقط في شباك الحملات المباغتة مهما كان تخفيه بعد ترصد دقيق من قبل مُخبرين مجاورين للضحية، ومسهمين في رفع تقارير كيدية أو مجندين لخدمة السلالة والعمل لصالحها، في سابقة لضرب النسيج الاجتماعي من الداخل، وانشطاره بين مخبرين ومتهمين، حيث تتم مراقبة الأهداف المرصودة بعناية، ولا مجال لفرارها من قبضة الاعتقال.
من إب إلى صنعاء وذمار والمحويت وريف تعز والبيضاء تفوح روائح الاختطاف والاعتقال كل يوم، فقد انصب سخط المليشيات باتجاه المعلمين كنار في هشيم بدوافع مجهولة واعتبارات غامضة دون أن يكون لهذه الشريحة أي دور علني مناوئ لسياستهم، أو مستهجن للظلم الواقع عليهم، أو ثبوت أي شكل من أشكال النشاط المقاوم والرافض للخسف السلالي المحيق بحاضرهم، بل إن النوايا الحوثية عازمة على تشويه صورهم ونبذ بقائهم وثباتهم في تأدية رسالتهم التربوية رغم ظروفهم القاسية وتجرعهم ويلات الجوع والفقر، فكان تمسكهم بهدفهم التنويري وإرادتهم الصلبة على مواصلة التدريس دون عائد قد جعل المليشيات تتخذ قرارها بسحقهم واتهامهم بالباطل.
لم تكن قضية تصفية الشيخ الشهيد/ صالح حنتوس بمنأى عما نحن بصدد ذكره، فمن جملة الدوافع الخفية التي عجلت منيته نفور الحوثي من بقائه مديرًا لدار القرآن المعني بتحفيظ كتاب الله وتدريس تفسيره بالطريقة المألوفة والشائعة في ديار الإسلام، والتي لا تتوافق مع التصور الحوثي الجديد الذي يريد ترسيخه وفقًا لبدع التشيع ونماذج التطييف الاثني عشري، فإذا كان هذا العزم السلالي قد أراد تغيير هوية تعليم كتاب الله فما بالك بصورة التعليم الكلية التي يقف المعلمون السابقون لحلول كارثة "المسيرة القرآنية" التي لم تكتف بتغيير المناهج وفرض رموزها وأعلامها وطمس معالم العقيدة الوسطية والسنة السوية التي ألِفها اليمنيون، وتناقلوها جيل إثر جيل كعقيدة ثابتة.
وحدهم التربيون خط الدفاع الأخير لردع ذلك التغيير الشامل لذهنية النشء، ومن يحاولون ترشيد التلاميذ لخطورة التطييف التعليمي المدمر لدينهم وهويتهم ومبادئهم حتى وإن كانوا يرضخون لتدريس هذه المناهج تحت التهديد، لكنهم نافرون منها ومثيرون للشكوك حولها، وكشف زيفها والتحذير منها، فما زال طلاب المدارس ينصتون لتعليماتهم ويتبعون نصائحهم بطرق غير مباشرة تجنبًا لعقاب المشرفين، وهذا الأمر خلق عائقًا أمام الاستجابة الكلية من طلبة المدارس، وترك عندهم موانع صد ورفض وفهم لمخاطر الاستسلام لكل دعايات وطقوس وبرامج السلالة الحوثية، سواء كانت تلك التوجهات منصبة في صلب المناهج المدرسية أو البرامج النشاطية أو متكدسة في الدورات الثقافية أو في المراكز الصيفية.
وعليه فإن إعادة بناء التعليم بالصورة التي ترسخ تفشي الفكر العقائدي الحوثي ليست مضمونة بآلية تغيير المناهج فحسب؛ بل يستدعي نجاحها التام إذا تم سحق المعلمين وبعثرة وجودهم، وإفساح الطريق لرعاع الفصيلة السلالية المؤيدين للمشروع والمتعصبين لكل أوهامه وتقديساته، ولأن الدور انصب على التربويين فإنهم سيواجهون ما يشبه الإبادة بشراسة منقطعة النظير، وما برز إلى السطح من اعتقال ومطاردة لهم مجرد بداية إجبارية ستجعل المنتسبين لهذه الفئة صيدًا سهلًا وتطهيرًا مشروعًا لن تتنصل الجماعة عن إتمامه، فطموحاتها تراتبية تتوزع بين إغلاق نوافذ الممانعة لقبحهم كالمدارس وبين اجتثاث القوى الحية المحرك الرئيس لبقاء تلك النوافذ خارج سياق الرغبة السلالية وأملها في صياغة أجيال تولد من رحم العنصرية الهاشمية، ووهمها في الحق الإلهي والقناعة المطلقة بأفضلية السلالة وأحقيتها بالولاء والتقديس والعبودية من قبل اليمنيين.
فالصمت عن المصير العبثي الذي يتجرعه التربويون في شتى المناطق الحوثية، ومساواته بمجمل الانتهاكات الأخرى يعد إخفاقًا في تقدير الموقف وقصور في فهم ديناميكية التجريف الحوثي المندفع نحو تغيير بنية المجتمع اليمني كليًا، حيث ستنشأ أجيال ليس في قاموس وعيها وسلوكها ذرة من شك أو لمحة من رفض يقاوم استجابته العمياء وانقياده اللا إرادي لتقديس السلالة إذ تمكن الحوثي من القضاء على التربويين بأساليبه الدنيئة وسلطته القمعية، سنفقد القدرة على استعادة مجتمعنا هناك وتعافيه من براثن الإمامة وإعطاب وعيه وثقافته وسلوكه.
المصدر: يمن شباب نت