صلاح الطاهري -خاص
في إب، لا تشرق الشمس كما تفعل في سواها. في إب، كل صباح يحمل معه وجوهًا ناقصة، مقاعد فارغة، وأسئلة تخنقها الجدران الصامتة. ليس الغياب هنا عابرًا، بل مُرعبًا. لا يعود من غاب، وإن عاد، يعود بشيء منه مكسور، بشيء منه ميت.
مدارس المدينة، تلك التي كانت تفيض بالحبر، بالصوت، بالحلم، باتت تصمت حين يُسأل عنها معلم. شوارعها تنكمش كلما اختفت فيها خطوات محامٍ أو ناشط أو مهندس. ليست الحرب وحدها من تسرق الأرواح، بل القيد، والوشاية، والليل الطويل الذي لا ينتهي.
لم تعد إب تُقاوم، بل تتألم بصمت، سكانها لا يُعارضون، ليس لأنهم راضون، بل لأنّهم خائفون، والفرق بين الرضا والخوف كبير كالفارق بين العيش والنجاة، من ينجو في إب، لا يعيش بل يُجرّ قدميه يومًا بعد آخر، على حافة رعب لا يُقال.
الكرامة في إب تهمة، من لا يُصفّق، يُختطف. من لا يُردّد، يُلاحق. من يكتب، يُكسر. ومن يصمت، يُراقَب. كل شيء هناك مراقب، حتى التنفس، حتى النبض، حتى الحلم والمدينة، التي طالما رفعت رأسها رغم الجراح، تبدو اليوم مُنحنية، تتوكأ على ذاكرةٍ مثقلةٍ بالأسماء أولئك الذين رحلوا دون وداع، الذين اختفوا دون أثر، الذين تحوّلت أصواتهم إلى ذكريات تُهمَس في الجلسات المغلقة.
إب لم تسقط، لكنها تتآكل من الداخل. تُنزف في صمت. وليس أخطر من مدينة تنزف دون أن يلاحظ أحد، دون أن يصرخ أحد، دون أن يُكترث أحد.
الحصار الحقيقي ليس في الغذاء ولا في الوقود، بل في الأمل. والذين يُريدون لإب أن تصمت، لا يخشون رصاصها، بل يخشون قلمها. يخشون أن تنطق. يخشون أن تكتب، ولذلك، لا بد أن تُكتب إب، لا بوصفها ضحية، بل مدينة تقاوم بصوتها المكبوت، وذاكرتها اليقظة، ووجعها الذي يصر على أن يكون دليلًا ضد القبح، وشاهدًا على عصرٍ يتواطأ فيه الصمت مع الجريمة.