ماجد عبده الشعيبي-خاص
تُعتبر حادثة إحراق أصحاب الأخدود (المرتبطة بحكم ذي نواس الحميري في اليمن القرن السادس الميلادي) حدثًا محوريًّا في التاريخ السياسي لليمن، ليس فقط كواقعة دينية مذكورة في القرآن الكريم (سورة البروج)، بل كـ"ظاهرة سياسية" تعكس ديناميكيات انهيار الشرعية، وتفكك النسيج الاجتماعي، وتحول الدولة من راعية للأمن إلى أداة للقمع. في هذا التحليل، نستكشف الحادثة عبر عدسات نظرية في علوم السياسة، لربطها بالسياقات الحديثة، وفك طبقات التداعيات التي لا تزال تلقي بظلالها على الوعي الجمعي لليمنيين حتى اليوم.
1. انهيار شرعية الدولة:
من "العقد الاجتماعي" إلى "الدولة العُنفية"
في الفلسفة السياسية، تُعد "شرعيّة الدولة" ركيزة بقاء النظام، وفقًا لـماكس فيبر الذي يميز بين ثلاثة أنواع من الشرعية: التقليدية، الكاريزمية، والقانونية-العقلانية.
في حالة ذي نواس، اعتمد النظام على "الشرعية التقليدية" (كملك حكم عبر سلالة حميرية) و"الشرعية الدينية" (كملك يهودي في دولة ذات غالبية دينية مختلطة).
لكن حين حوَّل الدولة وسلطتها إلى آلةً لقمع المسيحيين في نجران عبر سياسة الإحراق في الأخدود، خرق "العقد الاجتماعي" (الذي طوره لاحقا هوبز ولوك )، حيث تتنازل الجماعة عن جزء من حريتها مقابل ضمان الحماية من الدولة. هنا، تحولت الدولة من "السلطة الحامية" وهو المعتاد إلى "سلطة جائرة معتدية"، مما أفقد النظام شرعيته كليًّا.
من منظور (مانكور أولسون) في كتابه "السلطة والازدهار"، يمكن وصف ذي نواس بأنه انتقل من كونه "لصٌّ مُستقر"(يقدم خدمات عامة لضمان استمرارية استغلاله) إلى "لصٍّ جشع" (يستنزف المجتمع دون مقابل).
هذا التحوُّل جعل الدولة عبئًا على المجتمع بدلًا من أن تكون ضامنة للاستقرار، مما مهَّد الطريق لتدخل خارجي (الغزو الحبشي)، كرد فعل طبيعي على انهيار النظام الداخلي.
في السياق المعاصر، يُظهر هذا كيف أن الأنظمة التي تتحول إلى "مؤسسات جباية جائرة" وفقًا لـآسيموجلو وروبينسون في لماذا تفشل الأمم تُفقد السلطة شرعيتها وتُصبح عُرضة للانهيار.
2. الطائفية كاستراتيجية حكم: التطييف السياسي
استخدم ذي نواس سياسة حماية معتقدات "الطائفية الدينية" كأداة لتركيز السلطة، عبر استهداف المسيحيين كجماعة "أخرى"، في محاولة لتعزيز هوية دينية ضيقة (اليهودية) كأساس للحكم.
لكن هذه الاستراتيجية، التي تُشبه سياسة "فرق تَسُد"، انتكست حين تحوَّلت من أداة تحكم إلى سبب لانهيار النظام نفسه.
هنا، يُبرز تحليل " ليبهارت" للنُظم السياسية في المجتمعات المنقسمة : أن الأنظمة الناجحة في المجتمعات متعددة الديانات تعتمد على: (التشاركية)واحترام التنوُّع.أما حين تتجاهل الدولة هذا التنوُّع، وتحوله إلى أداة قمع، فإنها تُنتج (هشاشةً مؤسسية) تُسرِّع انهيارها.
في اليمن الحديث، تُكرِّر الأنظمة المتعاقبة (حتى يومنا هذا) سياسات ذي نواس عبر استغلال الانتماءات القبلية أو المذهبية لتكريس السلطة، لكن دون فهم أن (الطائفية المُفتعلة) وفقًا لنظرية (فرانسيس فوكوياما) في "الهوية السياسية" : تُضعف رأس المال الاجتماعي ، وتُحوِّل المجتمع إلى شبكة من العداوات بدلًا من كونه جسدًا وطنيًّا موحدًا.وهكذا، تتحول الدولة من ضامنة للأمن إلى (مُحرِّض على الصراع)، كما حدث في اليمن بعد عام 2011.
3. انهيار الثقة السياسية: من "العلاقة التمثيلية" إلى "العداوة"
أدت ممارسات ذي نواس إلى (انهيار الثقة) بين الحاكم والمحكوم، وهو ما يُفسَّر عبر نظرية (روبرت بوتم)حول "رأس المال الاجتماعي"، حيث تشير الثقة إلى قدرة الأفراد على التعاون لمواجهة التحديات الجماعية.
أما حين تتحول الدولة إلى مصدر للخطر (كما في حادثة الأخدود)، فيختفي رأس المال الجمعي التضامن، ويصبح المجتمع غير قادر على (التضامن والتآزر والتعاون الجماعي) لمواجهة التهديدات الخارجية، وهو ما حدث عند الغزو الحبشي، حيث لم تُقاوم الجماعات المحلية لأنها رأت في الدولة "عدوا" لا تجمعه بالشعب مصلحة مشتركة.
من منظور (غابريل ألموند) و(سيدمان فيربا) في الثقافة المدنية، يُظهر هذا الحدث كيف تتحول الثقافة السياسية من "تشاركية" إلى "عدوانبة"، حيث يشعر المواطن بأنه مجرد متلقي لقرارات الدولة دون ارتباط عاطفي أو وظيفي يربطه بها.
في اليمن المعاصر، هذا السياق يفسر (اللامبالاة السياسية) التي تجسدها مشاركة الناخبين المنخفضة في الانتخابات، أو رفض الشباب الانخراط في توجهات الدولة المعلن عنها، كتعبير عن وراثة ثقافية لـ"اللا ثقة" المتجذرة منذ قرون في الذات اليمنية.
4. موت الروح الوطنية: فشل بناء دمج المكونات في الدولة الوطنية
تشير "الروح الوطنية" إلى الإحساس المشترك بالانتماء إلى كيان سياسي (الأمة)، وفقًا لـ(بنديكت أندرسون) في كتابه "الأمم والخيال السياسي"، حيث تُبنى الأمة عبر (المجتمع المتخيل) الذي يُوحِّد بين الأفراد بروابط ثقافية وتاريخية.لكن سياسات ذي نواس الطائفية أنتجت (أمةً منقوصة)، حيث حوَّل الدين إلى معيار استبعاد بدلًا من كونه رابطًا جامعًا.
هنا، تفشل الدولة في أداء دورها الأساسي وفقًا لـ(إرنست غيلنر) في كتابه الرائع (الأمم والقومية)، وهو خلق (هوية وطنية جامعة شاملة)عبر التعليم والرموز المشتركة.
النتيجة كانت (هزيمة نفسية) جماعية، حيث لم يأبه اليمنيون لحقيقة أن الغزو الحبشي تهديدٌ لأمتهم اليمنية، بل رأوه صراعًا بين الملك والحبشة.
في السياق الحديث، هذا الفشل في بناء أمة موحدة يُفسر (الانقسامات الوجودية) في اليمن (مثل صراع الجنوب والشمال، أو الصراع المذهبي والطائفي)، حيث تظل كل جماعة ترى الدولة كـ"غريم" و "عدو" بدلًا من شريك في البناء.
5. التدخل الخارجي: بين "المسؤولية عن الحماية" والاستعمار المقنَّع"
يمكن تحليل الغزو الحبشي الذي تم بذريعة الانتقام للمؤمنين والمؤمنات الذين احرقوا في نجران عبر مقاربة "المسؤولية عن الحماية" في القانون الدولي المعاصر.لكن التاريخ يُظهر أن التدخلات الخارجية المُسوَّغة إنسانيًّا غالبًا ما تتحول إلى (استعمار جديد)، كما حدث حين سيطرت مملكة أكسوم على اليمن لعقود.وهنا، ينطبق تحليل (نوربرت) في "عملية الدولة والمجتمع"، حيث تُظهر الحادثة كيف أن (الضعف الداخلي) (الناجم عن فقدان الشرعية) يجذب التدخلات الخارجية، التي تُعيد تشكيل حدود القوة لصالح القوى الإقليمية.
في اليمن اليوم، تُكرَّر هذه الديناميكية مع التدخلات الإقليمية والدولية، حيث تُستغل الفراغات الناتجة عن انهيار الشرعية الداخلية لفرض هيمنة خارجية، تحت شعارات "مكافحة الإرهاب" أو "استعادة الشرعية".
6. الوراثة السياسية: "الاعتماد على المسار" وثقافة عدم الثقة"
تُفسر نظرية (الاعتماد على المسار) في العلوم السياسية – خاصة في تأطير (بول بيرسون) – كيف تُرسِّخ الأحداث التاريخية الكبرى (أنماط سلوك) تستمر لقرون.
حادثة الأخدود ليست مجرد ذكرى، بل (حدث تأسيسي) شكَّل ثقافةً سياسية يمنية ترى في السلطة (تهديدًا) بدلًا من رؤيتها كضامنة للمصالح العامة.وهذا ما يفسر – وفقًا لـموريس هالبواكس في كتابه الذاكرة الجماعية – لماذا فشلت الأنظمة المعاصرة (من الجمهورية إلى الوحدة) في استعادة ثقة اليمنيين، لأنها لم تعالج (الجذور الرمزية) لأزمة الشرعية.
الخلاصة: الدروس المستفادة لليمن المعاصر:
حادثة أصحاب الأخدود ليست حدثًا ماضيًا، بل (مرآة) لفهم أزمات اليمن الراهنة. فهي تُذكِّر بأن:
(الشرعية لا تُبنى بالقمع)، بل عبر إدماج التنوُّع في مشروع وطني شامل.
(الهوية الوطنية الجامعة) تُصنع عبر السياسات التشاركية، لا عبر استهداف "الآخر".
(الثقة السياسية) هي أهم رأس مال اجتماعي لا يُستعاد إلا عبر الشفافية والمساءلة.
في اليمن اليوم، يتطلب بناء دولة مُستقرة (حلقة الاعتماد على المسار السلبي)، عبر سياسات تعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لا كعلاقة سيد وعبد، بل كشراكة وطنية تُحيي الروح التي خبت يومًا في أخدود نجران. وإلا، سيبقى اليمن عالقًا في دائرة تكرر فيها أخطاء الماضي، مُذكِّرًا إيانا بأن "الشعوب لا تهزمها الغزاة من الخارج، بل تنهزم هذه الشعوب عندما تفقد سبب هويتها الجمعية وتفقد ثقتها بالسلطة".