اخبار هامة

    حرب غزة وإعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد

    حرب غزة وإعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد

    ماجد عبده الشعيبي-خاص

    أدّت حرب غزة الأخيرة إلى زلزال سياسي عنيف ضرب منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع، مُعيدًا خلط الأوراق على نحو غير مسبوق، ومُربكًا السياسة الدولية تجاه المنطقة.


    لم تعد التصنيفات النمطية للمحاور قادرة على استيعاب التعقيدات الجديدة التي فرضتها هذه الحرب، التي كشفت عن تحولات عميقة في الولاءات والتحالفات، وأعادت تعريف خطوط التماس بين القوى الفاعلة.


    انهيار التصنيفات القديمة: من المحاور المذهبية إلى التحالفات الجديدة:


    لطالما صُنّف الشرق الأوسط تقليديًا إلى محورين رئيسيين.


    الأول : هو محور إيران، الذي وُصِفَ بأنه تيار شيعي خالص يضم كلًا من إيران، العراق، سوريا، حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن.


    هذا المحور، الغريب في الأمر، كان يحظى بنوع من غض الطرف من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، وحتى من أوروبا.


    وقد فُسِّر هذا التسامح بأن هذا المحور كان يُعدّ، بشكل أو بآخر، كقوة موازية لما عُرف بـتيار الإسلام السياسي، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، التي برزت بقوة بعد ما سمي بالربيع العربي.


    الأنظمة التقليدية والحكومات العميقة في الدول العربية رأت هذا التيار تهديدًا مباشرًا وخطيرًا لوجودها، وهو ما يفسر تقاطع مصالحها مع محور إيران في مواجهة هذا التهديد المشترك.


    وقد تبنّى محور المقاومة الإيراني سياسة عدائية تجاه إسرائيل، وهي سياسة رأى بعض المراقبين أنها تهدف بالأساس إلى كسب الرأي العام في الشارع العربي، ما يعزز شرعيته في أوساط الشعوب.


    على صعيد آخر، أحدثت موجة الربيع العربي شرخًا عميقًا بين الأنظمة العربية التقليدية وتركيا، التي أيّدت حركات الربيع العربي وجعلت من أراضيها ملاذًا للمضطهدين من جماعة الإسلام السياسي.


    بلغت الأزمة التركية مع هذه الأنظمة ذروتها في التمويل المزعوم لانقلاب عسكري فاشل في تركيا، مما عمّق الهوة بين الطرفين.


    طوفان الأقصى: زلزال يزعزع الثوابت ويفرض حقائق جديدة:


    جاءت حرب غزة، أو "طوفان الأقصى" كما أطلق عليه، لتضع حدًا لهذه التصنيفات المذهبية الصارمة، وتُخلخل وتُزعزع ما كان ثابتًا في الأدبيات والأجندات السياسية والإعلامية في المنطقة والعالم.


    فمع انضمام حركة حماس إلى "محور المقاومة" الإيراني وإعلانها فك ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين، تلاشى الخط الفاصل بين ما هو سني وما هو شيعي.


    لم يعد محور المقاومة شيعيًا خالصًا بعد انضمام حركات فلسطينية ذات ثقل، مثل حماس والجهاد الاسلامي، إلى هذا المحور.


    هذا التداخل بين المكونات السنية والشيعية برز بقوة في حرب غزة الأخيرة، حيث أحدث انقسامًا عميقًا في الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، ليس على أسس مذهبية، بل على أسس جيوسياسية ومعيار المقاومة.


    ولم تقتصر تأثيرات "طوفان الأقصى" على إعادة تعريف المحاور وحسب، بل امتدت لتُسرّع عودة العلاقات التركية مع الأنظمة العربية، التي كانت قد وصلت حد القطيعة، وعلى رأسها السعودية والإمارات ومصر.


    هذه العودة السريعة للعلاقات، التي بدا أنها مدفوعة بحاجة الأنظمة الإقليمية لإعادة ترتيب أوراقها في وجه التحديات الجديدة، تؤكد على قوة الحرب في زعزعة الثوابت السياسية السابقة.


    وصل هذا الانقسام ذروته أثناء المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل.


    هنا، وجدت الأنظمة التقليدية العربية نفسها مُضطرة وبشدة إلى ضرورة إعلان وقوفها إلى جانب إيران ورفضها الصريح للهجوم الإسرائيلي الأمريكي على إيران.


    هذا التغير المفاجئ في الموقف، والذي يناقض تمامًا الصورة السابقة لهذه الأنظمة التي كانت ترى نفسها في الخندق الأمريكي المعادي لإيران بوصفها "محور الشر"، يُظهر مدى الخوف من ردة فعل إيرانية عنيفة قد تهاجم فيها إيران هذه الدول وتدمر مصادر الطاقة فيها.


    هذا الموقف الجديد يعكس براغماتية وواقعية سياسية فرضتها طبيعة الصراع وتهديداته المباشرة على مصالح هذه الدول.


    ولم يتوقف الأمر عند حدود المنطقة العربية. فباكستان، المصنفة ضمن المحور السني التقليدي والتي تعد حليفًا بارزا للمملكة العربية السعودية، أعلنت تأييدها صراحة لإيران الشيعية، وأعلنت عن تدخلها المباشر مع إيران إذا استلزم الأمر.


    هذه الخطوة الباكستانية غير المتوقعة تعزز فكرة أن التحالفات باتت تتجاوز الخطوط المذهبية، وتُبنى على أسس المصالح الجيوسياسية المتبادلة والتهديدات المشتركة.


    تداعيات دولية ومساءلة غير مسبوقة:


    أحد أبرز التداعيات الاستراتيجية لهذه الحرب هو وضع إسرائيل على المحك في المحافل الدولية.


    فإسرائيل، التي كانت تُعدّ نفسها فوق القانون الدولي ولم تُمس تقريبًا، تم جرجرتها إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي. اللافت في الأمر أن دولة جنوب أفريقيا هي من تقدمت بهذه الدعوى، وانضمت إليها دول أخرى من خارج نطاق دائرة الصراع الشرق أوسطي.


    هذا يُعد مؤشرًا خطيرًا على تنامي الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية لأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل في عام 1948.


    تُوجت هذه التطورات بإدانة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، واستصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه.


    أضف إلى ذلك الموجة الدولية الكبيرة للاعتراف بالدولة الفلسطينية وعلى رأس هذه الموجة دول قوية : فرنسا، بريطانيا،استراليا..وغيرها.


    أمام هذا الضغط الدولي والتعاطف العالمي الكبير مع الفلسطينيين، تحولت صورة إسرائيل في نظر الرأي العام العالمي من ضحية للهولوكوست إلى صانعة لهولوكوست دموي لا يقل عن ما فعله هتلر، حسب وصف البعض.


    حتى الولايات المتحدة الأمريكية، بكل ثقلها الدولي، لم تستطع أن تفعل شيئًا أمام هذا السخط الدولي غير المسبوق تجاه إسرائيل، مما جعلها مكشوفة في ملفات حساسة.


    تحديات محور ايران وبروز لاعبين جدد:


    في المقابل، خرجت إيران من هذه المرحلة بجراحات مثخنة. فقد خسرت نفوذها في سوريا مع ثورة عسكرية مفاجئة، وأُصيب حزب الله بضربات كبيرة جدًا، فقد خلالها قياداته التاريخية بضربة واحدة موجهة من إسرائيل. حتى الجماعات الشيعية في العراق نأت بنفسها عن التدخل المباشر في حرب غزة، واقتصرت على رشقات محدودة على استحياء، مما يشير إلى تغير في أولوياتها أو قيود مفروضة عليها.


    على النقيض، برز المحور الحوثي في اليمن بقوة، وقرر ضرب السفن المتجهة إلى إسرائيل، وهو ما شكل تهديدات مباشرة لطرق الملاحة والتجارة البحرية الدولية، وأثر على سلاسل الإمداد العالمية.


    يضاف إلى هذا التعقيد اتهام أمريكي لكل من الصين وروسيا بوقوفهما خلف هذا التهديد الحوثي وإمداده بالسلاح والمعلومات والخبرات، حسب الاتهامات الأمريكية. هذا يشير إلى تزايد التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، وانعكاسه على صراعات المنطقة، مما يزيد المشهد تعقيدًا.


    المآلات والتداعيات الاستراتيجية: مشهد إقليمي يتغير


    إن هذا التحول العميق في المشهد الإقليمي يحمل تداعيات استراتيجية خطيرة، ويوجهنا إلى السؤال الأهم: ما هي المآلات والتداعيات الاستراتيجية لهذه الحرب ولهذه المرحلة؟


    * تلاشي مفهوم "السلام الإبراهيمي" وتدعيم مركزية القضية الفلسطينية:


    لقد قوّضت حرب غزة مفهوم "السلام الإبراهيمي" الذي سعت واشنطن إلى ترسيخه، وكشفت عن هشاشة التطبيع مع إسرائيل في غياب حل عادل للقضية الفلسطينية.


    الحرب أعادت تذكير الشعوب العربية بأن القضية الفلسطينية تظل هي القضية المحورية التي يمكن أن توحّد الشارع العربي، بغض النظر عن الانتماءات المذهبية أو السياسية. هذا يعني أن أي محاولة لتجاوز القضية الفلسطينية أو تهميشها ستكون محكومة بالفشل على المدى الطويل.


    * إعادة تعريف موازين القوى الإقليمية:


    أضعفت هذه الحرب من قبضة الأنظمة التقليدية على خطابها السياسي، وأجبرتها على إعادة تقييم تحالفاتها ومواقفها في ظل ضغط شعبي متزايد وتهديدات إقليمية مباشرة. لقد دفعت حرب غزة إلى تشكيل تحالفات جديدة عابرة للمذاهب، ومبنية على أسس المقاومة والعداء للاحتلال.


    هذا التغيير ليس مجرد تحول تكتيكي، بل هو تغيير بنيوي في فهم ديناميكيات القوة في المنطقة.


    *  النفوذ الإيراني وتقلبات التحالفات:


    أظهرت الحرب أن إيران ومحور المقاومة يمتلكان القدرة على التأثير في الأحداث الإقليمية بشكل كبير، ليس فقط عسكريًا، بل أيضًا عبر كسب التأييد الشعبي في المنطقة. موقف الأنظمة العربية من الهجوم على إيران، وتأييد باكستان، يؤكدان أن الخصومة التقليدية مع إيران قد تتغير سريعًا أمام التهديدات الأكبر والمصالح المشتركة. هذا يعني أن المنطقة قد تشهد تحالفات غير تقليدية تتشكل وتتغير بسرعة بناءً على تطورات الأحداث.


    * تحدي النموذج الأمريكي في المنطقة:


    مع تزايد النفوذ الإيراني، وتغير مواقف الحلفاء التقليديين لواشنطن، يُطرح تساؤل كبير حول مدى قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على نفوذها وهيمنتها في المنطقة بالطريقة التي كانت عليها قبل "طوفان الأقصى". المنطقة تتجه نحو تعددية قطبية، حيث لم يعد هناك لاعب واحد يمتلك القدرة على تحديد مسار الأحداث.


    تساؤلات حول مستقبل المنطقة، الفاعلين من غير الدول والتضامن العربي:


    إن ما شهدناه في حرب غزة ليس مجرد صراع عسكري، بل هو إعلان عن نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة في الشرق الأوسط، حقبة تُعاد فيها صياغة التحالفات، وتُكسر فيها الحواجز المذهبية، وتبرز فيها قوى جديدة على الساحة الإقليمية والدولية.


    وفي ظل هذه التحولات، تبرز تساؤلات حاسمة حول مستقبل المنطقة:


    * مستقبل جماعات الإسلام السياسي في ظل عودة العلاقات التركية العربية:


    مع عودة العلاقات بين تركيا وعدد من الأنظمة العربية، قد تتقلص المساحات المفتوحة لجماعات الإسلام السياسي. تركيا، التي كانت توفر ملاذًا ودعمًا لهذه الجماعات، قد تُجبر على مراجعة سياساتها تجاهها تحت ضغط تحسين العلاقات مع دول مثل السعودية والإمارات ومصر.


    هذا قد يدفع بعض هذه الجماعات إلى البحث عن أشكال جديدة من النشاط السياسي أو التحول نحو العمل السري، أو حتى الانحسار تدريجيًا في بعض المناطق.


    السؤال هو: هل ستجد هذه الجماعات طرقًا جديدة للتأقلم والبقاء، أم أن الضغوط الإقليمية ستؤدي إلى إضعافها بشكل كبير؟
     

    * مستقبل إسرائيل السياسي وفرص المناهضين لها:


    لقد تضررت صورة إسرائيل عالميًا بشكل كبير جراء حرب غزة، وتحول نظرة الرأي العام العالمي إليها من ضحية إلى معتدية.


    هذا التشوه في الصورة، المدعوم بالإدانات الدولية والإجراءات القانونية، يوفر فرصة غير مسبوقة للمناهضين لسياسات إسرائيل.


    يمكن لهذه الحركات الاستفادة من هذا الزخم العالمي للضغط من أجل المزيد من العزلة الدبلوماسية والاقتصادية على إسرائيل، وتعزيز حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات .


    السؤال هو: هل ستتمكن هذه الحركات من ترجمة هذا التعاطف العالمي إلى ضغط سياسي فعّال يدفع نحو تغيير حقيقي في مسار القضية الفلسطينية، أم أن هذا الزخم سيتلاشى مع مرور الوقت؟


    * مستقبل الحركات المسلحة في المنطقة:


    في ظل استخدامها من قبل بعض الدول لتنفيذ أجنداتها الخاصة، يُطرح تساؤل كبير حول استمرارية هذه الحركات وقدرتها على البقاء والاستقلالية.
     

    هل ستتحول هذه الجماعات إلى أدوات دائمة في صراعات الوكالة، تفقد بذلك جزءًا كبيرًا من شرعيتها الشعبية وقدرتها على تمثيل قضاياها الأصيلة؟ أم أن هذه التجربة، وما لحق ببعضها من خسائر، قد تدفعها إلى مراجعة استراتيجياتها وأساليب عملها، ربما بالتوجه نحو العمل السياسي أو التركيز على المقاومة المحلية؟


    وكيف ستؤثر التغيرات في التحالفات الإقليمية على مصادر تمويلها ودعمها؟


    * مستقبل التضامن العربي الذي ظهر أنه الحلقة الأضعف:


    أظهرت حرب غزة أن التضامن العربي، بشكله التقليدي، لا يزال هو الحلقة الأضعف والأوهن في المنطقة.


    على الرغم من بعض المواقف الداعمة للقضية الفلسطينية على المستوى الشعبي وبعض التصريحات الرسمية، إلا أن الاستجابة الرسمية للعديد من الدول العربية بدت خجولة وغير مؤثرة مقارنة بحجم الكارثة الإنسانية والانتهاكات المستمرة.


    هذا يكشف عن أولويات مختلفة للأنظمة العربية، تركز على مصالحها الأمنية والاقتصادية الفردية أكثر من التضامن الجماعي.


    السؤال هو: هل ستظل هذه الدول تفضل المصالح الوطنية الضيقة على وحدة الصف العربي، أم أن تداعيات الحرب وتغير موازين القوى قد تدفعها نحو إعادة إحياء نوع من التضامن، حتى لو كان على أسس جديدة وبراغماتية؟


    * هل يمكن التنبؤ بصورة مستقبلية للمنطقة؟


    إن هذه التحولات المعقدة والمتشابكة تجعل التنبؤ بصورة واضحة للمستقبل أمرًا بالغ الصعوبة؟


    هل تتجه المنطقة نحو مزيد من الصراعات والتوترات في ظل هذه التحولات السريعة، أم أن هناك فرصة لتشكيل نظام إقليمي جديد أكثر استقرارًا، يقوم على توازن قوى مختلف ومصالح مشتركة أوسع؟


    وكيف ستتأثر العلاقات بين القوى الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، روسيا) في المنطقة؟


    هل ستزداد المنافسة بينهم، مما قد يؤجج الصراعات المحلية، أم أنهم سيجدون أرضية مشتركة للتعاون في بعض الملفات الحساسة؟


    إن الإجابات على هذه التساؤلات ستحدد ملامح الشرق الأوسط في العقود القادمة. فالحرب في غزة لم تكن مجرد حدث عسكري، بل كانت نقطة تحول جيوسياسية عميقة أدت إلى خلط الأوراق وإعادة رسم خريطة القوى في المنطقة والعالم.

    قد يعجبك ايضا!