صلاح الطاهري -خاص
مع كل إشراقة من شهر سبتمبر، ينهض اليمنيون على وقع ذكرى لا تغيب من وجدانهم؛ ذكرى السادس والعشرين من سبتمبر، اليوم الذي كسرت فيه إرادة الشعب اليمني قيود الحكم الإمامي السلالي، وفتحت أبواب الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية.
لم يكن سبتمبر يوماً عابراً، بل محطة فاصلة صنعت ميلاد الجمهورية، ورسخت في وعي الأجيال أن هذا الوطن لا يُدار بالسلالة ولا بالحق الإلهي المزعوم، وإنما بإرادة الناس واختيارهم. لذلك، يحتفل اليمنيون منذ مطلع هذا الشهر حتى آخره، كلاً على طريقته، وكأنهم يعيدون كتابة العهد الجمهوري في الذاكرة والروح.
وبلا شك فإن ما يُبهج الناس يُفزع الطغاة. فمنذ الانقلاب الحوتي، تحاول الميليشيا عاماً بعد عام أن تطمس هذا الحدث الوطني العظيم من حياة اليمنيين. تعيش حالة من الذعر كلما أطل سبتمبر، تُدرك أن إستعادة الناس لهذه المناسبة إنما تعني رفضاً عميقاً لمشروعها السلالي، وتذكيراً صارخاً بأنها نسخة جديدة من الحكم الإمامي الذي لفظه الشعب قبل أكثر من نصف قرن. ولذلك، تتعامل الميليشيا مع سبتمبر ككابوس يُعكر عليها سلطتها، فتستعد له بحملات ترهيب، ومداهمات، واختطافات، وتشديد أمني خانق، وكأنها تخوض حرباً مع ذاكرة الناس.
في العام الماضي، وصل بها الأمر إلى اعتقال شباب وناشطين لمجرد أنهم رفعوا العلم اليمني فوق منازلهم وسياراتهم أو على أسطح بيوتهم، بل وحتى من نشروا صوراً للعلم على صفحاتهم الشخصية في منصات التواصل.
صار رفع العلم الوطني جريمة في نظر الميليشيا، فيما كان هذا العلم ولا يزال رمز الجمهورية وعنوان كرامة اليمنيين. والمفارقة المضحكة المبكية أن سلطة تزعم إمتلاك “الحق الإلهي” ترتعد من قطعة قماش بألوان ثلاثة، لأنها تُدرك أن الخطر ليس في القماش، بل فيما يحمله من معنى وذاكرة، وما يختزنه من رفض شعبي عميق لوجودها.
إب، بخصوصيتها الثقافية والإجتماعية، تتحول كل سبتمبر إلى ميزان حرارة يكشف إرتباك مليشيا الحوتي. فالمدينة والمحافظة التي تختزن نخبة مثقفة ووجهاً جمهورياً أصيلاً، تعبّر بطرق متعددة عن تمسكها بذكرى سبتمبر. راية على نافذة، منزل وسيارة نشيد يتردد في الأزقة، أو صورة تُرفع على جدار، كلها تفاصيل صغيرة لكنها تقلق الميليشيا، لأنها تأتي من عمق المجتمع لا من قرار فوقي، ولأنها تقول ببساطة: "الجمهورية باقية في قلوبنا".
يُدرك الحوتيون أن ما يحاربونه ليس مجرد مناسبة وطنية، بل جوهر فكرة تقوض مشروعهم السلالي من جذوره. لذلك يلجؤون إلى القمع المفرط، ظناً منهم أن الإختطاف يقتل المعنى، أو أن التـ،،ـرهيب يخمد الذاكرة. غير أن ما يحدث هو العكس تماماً؛ فكلما زاد القمع، ازداد تعلق الناس بسبتمبر، واتسعت مظاهر الاحتفاء به، حتى باتت أكثر تنوعاً وابتكاراً من ذي قبل، فردية كانت أو جماعية، واقعية أو رقمية.
إن عداء مليشيا الحوتي لثورة السادس والعشرين من سبتمبر لا يأتي من فراغ. فهي الحدث الأكبر والأخطر على مشروعها، لأنها تمثل ميلاد الدولة الحديثة، ونهاية حكم السلالة، وتجسد الرفض الشعبي العميق للإستبداد المتدثر بالدين. لهذا، تعيش المليشيا سبتمبر بقلق أمني لا ينتهي، وتعد له عدّتها منذ أغسطس من كل عام، كأنها على موعد مع امتحان سنوي تفشل فيه في كل مرة، لأن الناس يصرون على أن يرفعوا رايتهم ويستعيدوا جمهوريتهم ولو بطرق بسيطة.
إن ما لا تفهمه الميليشيا أن سبتمبر ليس مجرد تاريخ يُحتفى به، بل هو معنى متجذر في الوعي الجمعي لليمنيين، وأن الذاكرة الوطنية لا تُمحى بإختطاف ناشط، ولا تُشطب بمصادرة علم، ولا تُطمس بحملة تخويف. فكما أسقط اليمنيون الإمامة بالأمس، فإنهم يحتفون اليوم بسبتمبر ليؤكدوا أن مشروعها الجديد، بنسخته الحوتية، لن يكون سوى حلقة عابرة في مسار طويل تقوده إرادة شعبٍ يعرف جيداً أن الحرية أثمن من الخوف، وأن الجمهورية أكبر من كل الميليشيات.
وهكذا، سيظل السادس والعشرون من سبتمبر يتوهج في القلوب والبيوت والذاكرة، وسيظل صوت اليمنيين فيه أعلى من كل أدوات القمع، لأنه ليس مجرد ذكرى وطنية، بل عقدٌ شعبي مع الحرية، ووعدُ أبدي بأن اليمن الجمهوري لن يموت.