اخبار هامة

    إحياء سبتمبر بدافع وجودي

    إحياء سبتمبر بدافع وجودي

    صلاح الأصبحي-متابعات

    ليس مقدم هذا الشهر اليمني الفضيل مقتصرًا على احتوائه ذكرى الثورة السبتمبرية يوم السادس والعشرين - يوم العبور اليمني نحو الحياة -بل موسمًا سنويًا لتجديد الوعي وإيقاظ الأرشيف السبتمبري من سباته، ونبش كنوزه، والتهام  مذكراته وذكرياته واستعادة مواقفه، وتمثل أحداثه، وتتبع مآثره في مجمل الإرث الفكري والسياسي والثقافي والأدبي والفني الذي أنتج طيلة ستة عقود جمهورية، لتأسيس مرجعية وطنية خالية من الزيف وترهل الانتماء وهشاشة الهوية الجمهورية.


    لم يكن الكهنوت ليطل برأسه ثانية لو كان اتصالنا حقيقيًا بتاريخ سبتمبر وتاريخ الإمامة البائد قبل بزوغه، حيث كنا نتظاهر بتحصيلنا الشهادات الجامعية، ونتوهم أننا صرنا في مصاف نخبة المجتمع، ونتباهى بثقافتنا الحداثية وتخصصاتنا العملية والإنسانية.


    وكان انزلاقنا في خوض تجارب سياسية وانتماءات حزبية يشعرنا بمدى فهمنا واهتمامنا بواقعنا السياسي والاجتماعي، لكن جهلنا بتاريخنا كان حاضرًا، ولم نكترث بكونه نقطة الضعف التي ستكسرنا في يوم ما، كنا نتعامل معه كأرشيف ميت، لا يشكل فارقًا في تأسيس وجودنا ورسم ملامح هويتنا وانتمائنا لهذا الوطن.


    لقد تغلب الصراع السياسي على السلطة - إبان الثورة- على تجسيد أهدافها ومبادئها وترسيخ تاريخها وإرهاصاتها ومراحل نجاحها وتكليف هيئة معنية بزرع قيمتها ومعناها في الوعي الجمعي، واتخاذها قاعدة أساسية لعلاقة المجتمع بوطنه، ونقطة اتصال كلية لتعزيز روابطهما، لقد تداخلت اهتمامات أخرى طغت على تنوير الأجيال المتعاقبة وغرس شغف حميمي يقوي معنى الانتماء، ويصقل الوعي بإدراك حقائق القيم الجمهورية وأثرها الوجودي الذي يربط مصير تلك الأجيال بمصير تلك الحقائق.


    كانت الإمامة قد انزاحت منكفئة نظريًا في أرشفينا التاريخي المهمل كحروف سوداء هامدة وزمن بائد، لكن تلك الحروف استأنفت حياتها من جديد تطبيقيًا لتعلن وجودها في انتكاسة جمهورية قبيل عِقد من الزمن، فتصيبنا صدمة وطنية إزاء غفلتنا ونأينا عن استيعاب الخطر المتربص بنا في الظل، وانقياد المجتمع بيسر إلى حلبته والتهام حاضره ومستقبله،  وإرجاعه إلى الماضي بكل تجلياته.


    ولطالما أننا صرنا الآن في صلب معركة وجودية علنية مع كهنوت مستجد يعمل على طمس ذاكرة مقاومة جذوره،  ومحو تاريخ صراع اليمني مع أسلافه، وإخفاء تاريخه الأسود، وخلق التباس وتزييف ينفذ من خلالهما إلى وعي المجتمع ويزعزع قناعاته حول مشروعه، ومحاولته إغوائه ببطولات عروبية ومواقف وطنية مبتدعه لثنيه عن رفضه، وتقبل جبروته كفعل منطقي مصحوب بمشروعية دينية.


    فلا سبيل لصد هذا الموج الكهنوتي إلا بطوفان فكري تثقيفي يستقرئ التاريخ ويستنطق أبجدياته، ويستكشف سوداوية السردية الإمامية الرجعية التي تعج بها مئات الكتب والمؤلفات والأبحاث والكتابات التي تعري هذا السواد وتفضح أشكاله.


    ليكن شهرنا هذا مثقلًا بالغوص في بحبوحة المكتبة التاريخية اليمنية، وطقسًا وطنيًا يوجب إقامتنا في حضرة النور الأبجدي الجمهوري الذي كُرس لحراسة مستقبلنا، وتنبيهنا لمكامن الهزيمة المؤجلة التي ينبغي علينا التأهب لرفضها،  والاستعداد لمواجهتها، وتحذيرنا من ترك أبنائنا لقمة سهلة للغرق في مستنقعها.


    لم ينتصر أسلافنا على الإمامة إلا بوعيهم المدرك لجحيمها، وثقافتهم المستشعرة لمدى خسارتهم أمامها إذا تناسوا فداحتها، فالوعي محرك جوهري أولي للانتصار، وفاتحة جادة للموقف الوطني، والتمكن من دحض الاستسلام وكسر التحديات والعوائق التي تعيق طريق هزيمة الخصم.


    لا يبدو الحوثي هازلًا في عداوته لسبتمبر، ولا مترددًا في إزالته، منذ شروعه لخلق يوم مواز ليومنا فيه، وإخفاء ذكره في مناهج المدارس والجامعات، وتكثيف جهوده في إحياء سير الطغاة والأئمة في تاريخه السلالي، لدرجة تغيير أسماء المدارس بأوثان سلالية.


    أساليب طمس متعددة خفية وظاهرة، حتى بلغ كرهه مطاردة اليمنيين واعتقالهم كلما هللوا بقدومه وأحيوا ذكرى ثورتهم المجيدة فيه، ولم يتبق من سبتمبرنا في مناطق سيطرته إلا الاسم والعلم الوطني، حتى النشيد الوطني غدت الصرخة أكبر منافس له في كل محفل، ولم يعد يسمع صوته إلا في الأماكن المغلقة التي تحفظ حنين اليمني لسماع نشيده الوطني، وتتيح له أمنية ذلك الحنين المقموع.


    فلابد أن نجعل من سبتمبر رحلة تصحيحية للذات، وصقلها مما علق بها من شوائب في المواقف والنضالات، وألا تثنينا تلك التحايلات التي تنظر للكيفية التي تكون عليها علاقتنا مع خصمنا، وتعاتبنا أن نخاصم بشرف مع عدو بلا شرف ولا ملة ولا انتماء.


    وتلك هي الخيانة والخذلان لدماء شهدائنا وآلام جرحانا وحسرات اليمنيين من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، فالحوثي ليس خصمًا سياسيًا عابرًا بل عدوًا أزليًا نازعنا مجدنا واستلب عزنا وغدونا في عهده مشردين متناثرين مع حطام وطننا المفقود.


    وعليه فإن التماهي مع سبتمبر بمثابة حصانة وطنية وغذاء روحي وناموس حياة وكرامة،  فقد اُستعبد اليمنيون في الشطر الانقلابي الحوثي، وغدت الإمامة طقسًا يوميًا يتجرعونه بكل تفاصيله، ولا تلتقط وسائل الإعلام طبيعة تلك التفاصيل،  فهناك ارتداد رهيب نحو الخرافة والتجهيل، وتغييب العقل كأنه في إجازة مفتوحة، وبروز هوية طائفية دينية متهكمة من كل منجز وطني يتعلق بحرية الفرد وكرامته وامتلاكه أية إرادة أو تحكم بوجوده.


    فالسادس والعشرون من سبتمبر عقد اجتماعي حرر اليمنيين من الرق، وفقدان هذا العقد سيمثل عودة إجبارية مشروعة لسوق النخاسة الإمامية والهلاك بأية طريقة من طرق استخدام أبناء اليمن كوقود في محارقها ومشاريعها التدميرية.

    المصدر: يمن شباب نت

    قد يعجبك ايضا!