عامر الدميني-خاص
احتشد الناس من كل قرى مديرية مذيخرة، وتجمعوا في سوقها الكبير، الذي يتاخم واحد من أقدم المساجد التاريخية، ويطلق عليه "جامع علي"، ويروى أن من بناه هو علي ابن الفضل، الذي جعل من مذيخرة عاصمة لدولته، وامتد حكمه لأجزاء كبيرة من اليمن.
كان الاحتشاد هائلا، وأنيط بمشائخ المديرية تجميع الناس، وتولت إدارة المديرية حينذاك ترتيب الحشود، واستقبال الضيوف الكبار، الذين سيزورون مركز مذيخرة لأول مرة.
مذيخرة التي يطلق عليها المديرية الخضراء في اللواء الأخضر كانت حينها عبارة عن قرى متناثرة، تنعدم فيها الخدمات، ومعزولة بشكل تام عن محيطها من المدن، فلا طرقات وصلتها، ولا صحة فيها، وأفضل مدارسها في ذاك الوقت، كانت مدرسة الفتح التي بنتها دولة الكويت، ومن فصولها تخرج العشرات من الطلاب الذين حققوا لاحقا حضورا متقدما في النجاح على مستوى الجمهورية، ووصلوا لعدة مناصب حكومية.
الضيوف الذين وصلوا كان الرئيس علي عبدالله صالح، ونائبه علي سالم البيض، وحشد غفير من قيادات الدولة العليا، وذلك عقب تحقيق الوحدة اليمنية، وتقريبا في العام 1992م، حينما تجول صالح ونائبه البيض في عدة مديريات بمحافظات إب وتعز، والتي ترتبط بجغرافيا واحدة، كمديريات العدين وشرعب.
كنتُ حينها طفلا صغيرا، لكن ذاكرتي لاتزال تحتفظ بتلك اللحظة وتفاصيلها، وقفتُ مع آخرين في شرفة مبنى، عبارة عن مقر لحزب المؤتمر الشعبي العام، وللمرة الأولى أنظر لصالح والبيض أمامي، بعد أن كنا نراهم فقط في التلفزيون الرسمي.
كان الرجلان غاطسان في بحر من البشر، ويلوحان بأيديهما للحشود التي ارتصت فوق الدكاكين القديمة بالسوق، واتجها نحو مدرسة الفتح، التي جرى تجهيزها لاستقبالهم، وهناك ألقى صالح كلمة جماهيرية، ومثله فعل البيض، ثم اتجه الموكب نحو مركز المديرية، وهو المكان الذي تتخذه السلطة المحلية مقرا لها، والمبنى قديم وأثري، ومتداعي، وبناه الأتراك عندما كانوا يحكمون مذيخرة، ومن المفارقة أنه لازال صامدا، ويؤدي نفس الدور حتى اليوم.
من ضمن اللافتات التي رفعها الناس حينذاك في وجه صالح ونائبه وقيادات الدولة لافتة قماشية، مكتوب عليها: "مذيخرة تطالب بحقوقها من الكهرباء والماء والطرق والمواصلات"، وبالفعل تلك كانت أبرز المطالب الأساسية التي تحتاجها المديرية الأقدم تاريخا، والأكثر رقيا في سلوك أبنائها، والأجمل منظرا ومكانا.
مرت الأيام، وبدأت الثمار تنضج، فقد أدى تكاتف أبناء المديرية الذين انقسموا لثلاثة أقسام، إلى جهود أفضت لتغيير واقع المديرية لحال أفضل، القسم الأول هم مشائخ المديرية، وهم هنا بيت الباشا، وكان الراحل الشيخ أمين علي محسن باشا رحمه الله، هو من يحكم مذيخرة فعليا، وله بصمات واضحة، في نقل مذيخرة لحال جديد، والخوض في سيرته فيه الكثير من الإثارة والإعجاب والتوقف.
والقسم الثاني تمثل بالطليعة الأولى من أبناء المديرية الذين تلقوا تعليمهم فيها، أو في مدن أخرى مثل تعز وإب، أو خارج اليمن، وبدؤوا تحركهم في خلق حالة من التنوير، وانتقاد الوضع، ولفت أنظار الناس، وكذلك تأثيرهم الإيجابي المباشر من خلال المواقع الحكومية التي كانوا يعملون فيها.
والقسم الثالث هم السكان، وأعني بهم هنا فئات عديدة، منهم من كانوا يعملون مع الدولة شكليا، ويطلق عليهم بالعدول، ويمثلون الدولة في مهمات معينة، كالضريبة التقديرية على المنتجات الزراعية، وجاءت وظيفتهم امتدادا للتعاونيات التي أقرت في عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، ومنهم أيضا كبار المزارعين، وشريحة التجار، والذين كان لهم تأثير مجتمعي واضح.
سنة تقريبا مرت من زيارة صالح ونائبه، وتحركت آلة التنمية في المديرية، كانت البداية بشق الطرقات، التي وصلت لعدة قرى، كان الوضع فيها بائسا، ولو لم يتم البدء في شقها تلك الأيام لما عرفت أبدا وصول الطرق وشقها وتمهيدها.
ثم شهدت المديرية فتح طريقين بعد أن كانت الطرق السابقة مرهقة ومضنية، كشق طريق تعز – مذيخرة، وطريق مذيخرة – العدين، وتلك الطرق ربطت المديرية بمراكز المدن المحيطة بها، وجعلت منها مركزا حيويا، وعلى خط دولي مع المحافظات المجاورة، كتعز وإب والحديدة.
الأمر ذاته ينطبق على جوانب تنموية أخرى، كالمواصلات وشبكات الهاتف، وقطاع الصحة، فبعد ما يقرب من عقد من الزمان على تلك الزيارة وصلت شبكة الهواتف العمومية، وبدأت المديرية التي كانت معزولة تبرز من جديد كمدينة ناشئة، تجتمع فيها أصالة الريف، وشكل المدينة.
لكنني هنا سأتحدث عن البدايات الأولى لظهور مستشفى مذيخرة الريفي، على ضوء حوادث الموت المتتالية لنساء في مقتبل العمر، يمتن داخل هذا المستشفى بشكل لا يتصوره عقل، ولا يرضاه منطق، ولا يقره شرع أو عرف أو قانون.
جرى اختيار مكان المستشفى في عهد الشيخ الراحل أمين علي محسن باشا – رحمه الله – وذلك في بقعة تبعد ما يقارب واحد كيلو متر على مركز المديرية، ومرافقها الحكومية، وكان المكان عبارة عن صخور جبلية، ونتوءات، لكنه من ناحية الموقع يعد مميزا، ببعده عن صخب السكان، وحركتهم، واطلالته المميزة، التي تؤهله بالفعل لان يكون مشفى ملائما.
تم جلب الآلات الثقيلة، (حرارة – بكلين - شيول)، وكانت الخطوة الأولى تمهيد الأرض، وتسويتها، وجعلها صالح للبناء عليها، وكان المشروع على نفقة الدولة، مع تحمل السكان نسبة من التكاليف المالية، من خلال المبالغ التي فُرضت عليهم، بإشراف الشيخ أمين، وتنفيذ (العدول)، وجرى تجهيز كشوفات، وجمع المبالغ من السكان، في كل قرى وعزل المديرية، كلاً حسب وضعه المادي، واستطاعته.
لازلتُ أتذكر وأنا في سن العاشرة تقريبا، أقطع المسافات في قريتنا، تنفيذا لتوجيهات جدي، وأتنقل من منزل لآخر لاستلام تلك المبالغ، من السكان، وتسليمها لجدي، والذي كان يقوم بتسليمها للشيخ والجهات الحكومية، وفق الكشوفات المعدة مسبقا، والميزانية التي جرى تخصيصها لكل قرية.
وفي هذا الجو من التآزر المجتمعي، وحضور الدولة، سواء بمساهمتها، أو حث السكان على المشاركة، بدأت أولى اللبنات لبناء المستشفى، ولولا تلك الخطوات لما شهدنا ولادته ونشأته، وتحويله من حلم إلى واقع نعيشه، وهو بهذه الخطوة يكون حصيلة تلك الجهود مجتمعة، وأصبح كل مواطن من أبناء المديرية مشاركا فيه، بالقليل أو الكثير، ولو تأخر إنجازه سنوات معدودة لما خرج إلى النور، بشكل مطلق.
أدى المستشفى خدماته للسكان، وربما لم يكن بالمستوى المأمول، وحاله هنا حال كثير من المرافق الصحية الخدمية في اليمن، التي تعاني الإهمال، وعدم الاهتمام، وغياب الميزانية، وفوق ذلك انعدام الميزانية المالية، وأشنع من ذلك الفساد الإداري والمالي والمحسوبية، وهي الأمراض التي لا تجد لها دواء في تلك المرافق.
تعاقب على إدارة هذا المستشفى العديد من الشخصيات الطبية، وكل عام يمضي، يزداد تدهورا، وترتفع الأصوات من الحال الذي وصل إليه، ولم يعد باقيا منه كمنجز حكومي سوى الغرف والبنيان، أما الخدمات فتزداد تدهورا، ومع ذلك ظل الناس يؤملون الخير لتتحسن الأوضاع.
لكن ذلك الأمل أصبح زائفا ومخادعا، فالتدهور استمر، وبوتيرة عالية، وضراوة شرسة، وبدلا من أن المريض لم يكن يجد الخدمة والعلاج في المستشفى، ويخرج خائبا، أصبح يدخله ليخرج ميتا، وبشكل يتكرر يوما بعد آخر، ويسجل المستشفى بذلك أعلى حصيلة لعمليات موت قيصرية طالت نساء في المديرية.
نقر هنا أن الخطأ الطبي واردا، ولكن ذلك إن حصل فيكون مرة، ويتم تداركه والوقوف أمام أسبابه، وتجنب الوقوع فيه مرة أخرى، أما أن يتكرر بهذا الشكل، ومن ذات المكان، وفي نفس الغرف، فنحن هنا أمام جريمة مكتملة الأركان، تستدعي التحقيق، والتدخل العاجل، وتقديم المسؤولين للمحاكمة، وإقالة كل من له صلة بإدارة المستشفى، وتغيير كافة الطاقم الطبي.
هذه أرواح بشر، والاستهتار بها جريمة تتنافى مع مهنة الطب، وتتضاعف الجريمة عندما تتكرر، وتكون أكثر شبهة، عندما يتم مساومة الضحايا على الصمت، وشراء مواقفهم، واستغلال حاجتهم بالمال، وذلك ما يلقي مزيدا من الشكوك حول ما يجري داخل المستشفى، والممارسات التي تحدث.
وددتُ قول الكثير عن هذا المستشفى، وعن مذيخرة التي تعد مهبط الروح، ومهجة القلب، والدار التي لا تنسى، لكي يعلم البعض أن المكان الذي يجلسون عليه ليس مكانهم، وأن المستشفى ملكا لكل أبناء مذيخرة، الممتدين لعدة أجيال، وأنه بني من عرق جبينهم، ومن أموالهم الخاصة، وكلهم شركاء فيه، طوبة طوبة، لذا لا يجب أن يحولوه إلى مسلخ بشري، وبؤرة نار تلتهم المساكين من الناس الذين يبحثون عن قليل من العافية، ويخرجون في توابيت الموت، وبدلا من أن يصبح هؤلاء ملائكة الرحمة تحولوا لصناع للحزن والدموع والفقدان، وبدون أي شعور بالمسؤولية تجاه أرواح الناس.
أدرك مسبقا أن هذا الكلام سيكون ثقيلا على البعض، وجالبا للامتعاض عند البعض الآخر، ولكنه يبقى نزرا يسيرا من كلام كبير يجب أن يقال، وحتما سيأتي اليوم الذي سينشر ويظهر بدون أي رتوش، فالمستشفى ملكا للجميع، والجميع هنا أبناء منطقة واحدة، بعيدا عن أي اعتبارات أخرى للنفوذ المصطنع.
صفحة الكاتب على الفيس بوك