أحمد اليفرسي-خاص
لا ينبغي أن تمر ذكرى استشهاد حمدي عبدالرزاق المكحل مرور الكرام، فلم يكن استشهاده أمرًا عاديًا والله، كان زلزالًا بكل ما بالكلمة من أحمال وأبعاد. منذ بدأ مشواره في ثورته كان يعرف نهايته ومصيره، لم يضع رجله في طريق المواجهة إلا وهو على يقين من مصيره المشرق، لكنه بإصرار الكبار واصل طريقه نحو هدفه.
كان بإمكانه أن يعمد إلى أعذار أولئك الزهاد والدعاة والعلماء، ويتصالح مع القبح كما فعلوا متدرعًا بفتاواهم ومستغشيًا ثياب الاجتهادات التي شرعنت التطامن مع الباطل، وجعلت من الدين وسيلة تخدير وتخذيل للشعب من أن ينتفض لكرامته وحقه وحريته، وهو الدين الذي جعل ربعي بن عامر يقول عن المسلمين حين تساءل هرمز فارس عن العرب ما الذي جاء بهم؟ قال ربعي: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
لم يكن حمدي المكحل لتنطلي عليه حيل الفقهاء ومخارجهم للصمت والخذلان والهروب من مواجهة الفساد والانحراف العقائدي والظلم، والإجرام فواصل ثورته ضد الظلم والاستعلاء العنصري، وتحول إلى أيقونة نضال بعدما أسلم روحه لبارئها في مشهد يحبس الأنفاس، لقد تجاوز بتضحيته أعتى وأكبر هامات المحافظة ومشايخها وكبارها عظمة، وحاول استنهاضهم وتذكيرهم بالله تعالى وبواجب المسلمين تجاه الظلم والطغيان والانحراف العقائدي، لكنهم تركوه وحده وكان أمة لوحده.
مشهد القتلة قليلو الحيلة وهم عاجزون عن رد الحجة عليه ومناظرته والوقوف برهة من الزمن أمام قذائف الحق التي أطلقها ضميره الوطني الإنساني الحي، مشهد تاريخي سيسجله التاريخ بأحرف من نور، لقد أحالت صرخات المكحل حصونهم المدرعة بالبطش والتوحش والإجرام هُزْءًا داستها سنابك خيله المظفرة.
العجيب والمدهش أن المكحل لم يكن ذي قبل من مشايخ محافظة إب ولا من وجهائها، ولا من أكادمييها، ولا هو أحد دعاتها ولا علمائها الكبار، لقد كان شابًا من بسطاء المدينة القديمة، لكنه أحدث ثورة في حياته وثورة أكبر بعدم استشهاده رحمه الله.
سطوة صوت المكحل الصادق المتفجر وضوحًا ورجولة وشغفًا وصدقًا أرعبهم، فاستجمعوا كيدهم وخيلهم ورجِلهم وخنقوه، لهذا العظيم صوت مميز، استمعوا له وتمعنوا في نبراته وتعمقوا فيما قاله، صوت فيه من السطوة والحجة والمضاء ما لن تجده في كل منابر الخطابة الباهتة الباردة.
أطل على إب، وعلى اليمن من منبر صفحته، وبلهجتها الإبية الجميلة، صدح بالحق، لكن بصورة مغايرة، تجاوز تأثيرها أصوات الخطباء في منابر الوعظ البارد، تلك المنابر التي يستفزها خصر امرأة أكثر من رأس مقطوع ظلمًا وعدوانًا، ويستفزها سارق (رقيص) في مسجد، وتسكت عمن سرق دولة وسرق اللقمة من أفواه الجياع، ويستفزها محتال صغير، وتسكت عن محتالي وطن وشعب، ويستفزها مسلح غير منضبط، وسكتت عن ميليشيا وجماعة طائفية مسلحة متمردة على دولة ودستور ونظام وشعب.
المكحل ضبط الرؤية، ووجه البوصلة نحو الخلل بصدق، لم يكن مدفوعًا من حزب أو جماعة أو أي جهة... كان مدفوعًا من ذاته، من ضميره الحي الموجع، وتلك والله الخطورة، أن تضطرم نار مكبوتة وسط الشعب، وتنفجر بؤر حممية هنا وهناك، ذلك أخطر مليون مرة من صوت مدفوع أو جهة تنظم مقاومة.
الشعب يغلي ويعالج اعتمالات ثورة ذاتية ثورة بركانية حممية لا تبقي ولا تذر؛ ثورة لا تشبه الثورات السابقة، ولن يكون لها لاحق، ثورة والله أراها رأي العين، ومكمن خطورتها أنها لن تكون محكومة بأحزاب ولا جماعات ولا ارتباطات منظوماتية داخلية أو خارجية، ومثل هذه الثورات خطيرة ومدمرة للغاية، كونها ستكون منفلتة لا عقال لها، انتقامية لا خطام لها ولا حد.
نصيحتي للحوثيين: لا تظنوا أن القمع والإرهاب وممارسة القسوة والتوحش الداعشي سينجيكم من تلك النهاية، مهما كانت النهاية مؤجلة بفعل التدخلات الخارجية التي تدعمكم كثيرًا، فإن التأخير يضاعف ويراكم الاضطرام والاحتقان الحممي الثأري، أنتم تكسبون مرحليًا وتخسرون استراتيجيًا، إن لم يكن أنتم بأعيانكم مع أنني على يقين أنكم لا بقاء لكم ولن يطول ليلكم، إنكم تورثون لأبنائكم أيضًا ذلك الثأر وتلك النقمة، سيأتي عليكم يوم تتوارون من كل عين، تخفضون أصواتكم عن كل سمع، تبحثون عن ملجأ ولا ملجأ.
لا أراكم اليوم على استعداد لسمع هذا الكلام.. فسيروا إلى نهايتكم تصحبكم بركات الشيطان وتعاليمه.
رحم الله المكحل، فقد أقام الحجة على كل سياسي، وعلى كل إعلامي، وعلى كل خطيب، وكل عالم، وكل مدعٍ للصلاح أو الالتزام.