اب بوست-خاص
حين تُذكر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة التي نحتفي اليوم بذكراها الـ 61، يُذكر مهندسها الشهيد "علي عبدالمغني"، أحد أبناء إب، مدينة النضال والثورة والأحرار والتأريخ الممتد من جذور نضال ووطنية أبنائها الثائرين في وجه الظلم والاستبداد والكهنوت، الذين صنعتهم الظروف والمحن وحولتهم إلى قادة للثورات وكاتبي التاريخ المُعمد بالتضحيات العِظام في سبيل تحقيق العدل والحرية والمساواة.
وكما ارتبط ذكر الثورة بعلي عبدالمغني، فإن مما لم يعد فيه مجالاً للنقاش دوره البارز والقيادي الذي رسم معالم ثورة السادس والعشرين من سبتمبر ووضع مداميكها الصلبة وقاد موكبها العظيم وأسقط عرش الكهنوت السلالي المتخلف والقضاء على الحكم الامامي البغيض.
السعادة في الحرية
ولد (علي محمد حسين عبد المغني) في بيت الرداعي مديرية السدة إلى الشمال الشرقي من محافظة إب، في العام 1937 وكان الثاني بعد أخته فاطمة وبعد مولده بفترة وجيزة شاءت الأقدار أن ينفصل أبواه (بالطلاق) ولم يكن ذلك الحدث الأسري سوى بداية لمرحلة مليئة بالمواقف والأحداث والدروس التي ما برح يتلقاها في بيئة كانت مقيدة بأغلال الإمامة الحديدية، إلا أن هذا الجو المثخن بالظلم والقهر والمعاناة لم يمنع نسمات الحرية أن تتسلل إلى فؤاد هذا الطفل المولود لتنمو معه ثورة.
بعد 4 أعوام من مولده توفي والده، ليفقد بذلك حنان الأب ورعايته، ولم يكن أمام والدته، التي تزوجت من الحاج أحمد علي ضيف الله، من سبيل إلا أن تشمله برعاية كاملة وجدت دعما ومساندة من الأخوال ومن زوج الأم الذي ينتمي لمديرية النادرة، المحطة الثانية التي تابع فيها علي عبد المغني مراحل حياته الأولى.
تلقى الشهيد "علي عبدالمغني" تعليمه الأولي في كُتَّاب "نيعان"، وهناك ختم القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره وكان ذلك كما يبدو مدعاة لتجهيز حفلة تليق بالمناسبة كما تفعل أسر عديدة تجاه أبنائها المتفوقين، ولم تقتصر الحفلة تلك بتوزيع الحلويات وإقامة الولائم فحسب بل امتدت إلى زفة شارك فيها عدد من زملائه وأفراد أسرته وأقاربه أمتطى خلالها الطفل علي عبد المغني صهوة حصان منطلقا من ""نيعان" إلى قرية بيت الرداعي مسقط الرأس، شارك في الحفل يومها العلامة حسين محمد الكبسي الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية حينئذ وصادف وجوده في قريته (يعان) لزيارة أسرته وهو نفسه الذي لعب دورا كبيرا في إلحاق "علي" بمدرسة الأيتام.
يتيم يزور صنعاء للمرة الأولى
في عام 1946م انتقل علي عبد المغني إلى صنعاء لمواصلة دراسته وكان في السنة التاسعة من عمره وأثناء وصوله إليها توجه إلى منزل الوزير حسين الكبسي الواقع في "بستان السلطان" طالبا مساعدته للالتحاق بمدرسة الأيتام، وكما يحكي عدد من أقاربه فقد لقي ترحيبا حارا من الوزير الكبسي الذي ضمه إلى بيته معتبرا إياه واحدا من أولاده ولم تمض سوى أيام قلائل ليجد نفسه في مدرسة الأيتام وهناك كانت المفاجأة السعيدة بالنسبة له، لقد قررت لجنة الاختبارات في المدرسة إلحاق الطالب علي عبد المغني بالصف الرابع متجاوزة به ثلاثة فصول، وهي ميزة تمنحها اللجنة للطلاب المتفوقين.
وقبل قيام ثورة 48 م بأيام ذهب علي عبد المغني إلى منزل العلامة حسين الكبسي أحد رموز هذه الثورة، وهناك قابل المناضل جمال جميل العراقي قائد الثورة، وما إن وصل وسلم عليهما حتى دعاه جمال جميل وأجلسه بجانبه وسأله سؤالا مختصرا: فيما تكون السعادة؟ وكانت الإجابة هي الأخرى مختصرة: "السعادة تكون في الحرية"، فضمه جمال جميل إلى صدره وقال وهو ينظر إليه بتأمل كبير: "لو فشلت ثورتنا -لا سمح الله- فهذا الشبل هو الذي سيسحقهم ويكمل ما بدأناه".
وحصل علي عبد المغني على "جائزة مالية بالريال الفرانصي" (ماري تيريزا – عمله فضية) من جمال جميل الذي خاطبه قائلا: "هذا المبلغ جائزة لك وعليك أن تهتم بالعلم ولا يشغلك عن التعليم شيء"، وشاءت الأقدار أن تؤول ثورة 48 إلى الفشل ويعتلي الإمام أحمد عرش الإمامة، ويومها أباح صنعاء للنهب والسلب، فضلا عن ملاحقة الثوار والقبض عليهم وزجهم بسجون صنعاء وحجة، ليصدر بعد ذلك أوامره بإعدامهم وكان الضابط جمال جميل ضمن هؤلاء وكان إعدامه في "ميدان شرارة" (ميدان التحرير) حالياً وقبل إعدامه قال للإمام والحاضرين بصوت الواثق: لقد "حبلناها وستلد”" ولم يكن الإمام وحاشيته في مستوى يؤهلهم لفهم مغزى كلمات ذلك الثائر الهمام.
تخرج علي عبدالمغني من المدرسة الثانوية حاصلا على المركز الأول وأقامت وزارة المعارف حفل تخرج ألقى فيه علي عبد المغني كلمة الخريجين، نالت إعجاب الحاضرين، وعند توزيع الجوائز تسلم جائزته وفوق ذلك منحه ولي العهد البدر قلمه الذهبي وأعطاه وزير المعارف الحسن بن علي ساعة من الذهب وأصدر قرار بتعيينه سكرتيرا خاصا في الوزارة.
الكلية الحربية
في العام 1957 فتحت الكلية الحربية باب القبول لأول دفعة يتم اختيارها من بين طلاب المدارس العلمية والثانوية والمتوسطة وتقدم لها مجموعة من بينهم محمد مطهر زيد وهذه الدفعة التي عرفت فيما بعد باسم دفعة محمد مطهر ولم يتقدم علي عبد المغني في ذلك العام، فقد كان يأمل الحصول على منحة دراسية في الخارج.
وفي العام الثاني 1958 فتحت الكلية الحربية باب القبول من جديد وتقدم علي عبد المغني ضمن الدفعة الثانية المعروفة حتى الآن باسم دفعة علي عبد المغني وتخرج منها متفوقا بالمرتبة الأولى وأقامت الكلية آنذاك حفل تخرج ألقى الطالب علي عبد المعني فيه كلمة الخريجين وعند تسليم الجوائز والشهادات لأوائل الخريجين منح الأمام أحمد علي عبد المغني قلمه الخاص المصنوع من الذهب ولم يكن يدرك يومها أن هذا القلم هو الذي سيصوغ أهداف الثورة اليمنية.
بعد التخرج من الكلية الحربية التحق بمدرسة الأسلحة بمعية عدد من خيرة الضباط من خريجي كليات الحربية والطيران والشرطة، منهم: زميله ورفيق دربه محمد مطهر زيد، ناجي الأشول، حمود بيدر، عبد الله عبد السلام صبرة، احمد الرحومي، صالح الأشول، سعد الاشول، علي علي الحيمي، عبده قائد الكهالي، احمد مطهر زيد، احمد الكبسي… وغيرهم.
مرة أخرى في القرية
بعد أن تخرج في مدرسة الأسلحة قام بزيارة "البلاد"، وكان يومها قد بلغ 22 عاما وصحبه عدد من زملائه وكان ذلك في العام 1961، وهناك تفقد أهله في (المسقاة) و(بيت الرداعي) و(حرية) وأقام عند والدته يومين، وحرصاً عليها من أن تصلها أخبار سيئة عنه أثناء غيابه صارحها بأنه مقبل على عمل كبير هو وزملاؤه، وأوصاها أن تدعو له، ألحت عليه أن يخبرها بما هو مقبل عليه ليطمئن قلبها، فسألها عن رأيها في بيت حميد الدين، فأجابته بفطرتها النقية: "ما يقومون به لا يرضي الله ولا رسوله"، وزادت بقولها: "أمرهم إلى الله"، فأدركته ابتسامة عريضة وشعور عميق بالفرح ثم قال: "والله يا أمي ما تسمعي عن ولدك إلاَّ ما يسر خاطرك، وأما بيت حميد الدين فو الله ما يذبحوني ولن أموت إلاَّ موتة الأبطال"، ثم توجه إلى مدينة تعز وهناك قام بالاتصال بخلية الضباط الأحرار، وانتقل إلى الحديدة للغرض ذاته وقيل أنه سافر إلى عدن ومن ثم عاد إلى صنعاء.
الضباط الأحرار ولقاء "عبدالناصر"
في ديسمبر 1961م كان ميلاد تنظيم الضباط الأحرار بعد مشاورات ومحاولات عديدة أفرزت هذا التنظيم الذي أخذ طابع السرية في عمله وتحركاته، وكان علي عبد المغني واحدا من أبرز المؤسسين لهذا التنظيم، وتولى مسؤولية إحدى خلاياه وكانت تضم عشرة أعضاء.
وقبل ذلك، وبالتحديد في عام 1956، عندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي قاد علي عبدالمغني مظاهرة طلابية مهيبة وجهت رسائل مهمة وحاسمة للإمامة، وكانت أول مظاهرة تشهدها صنعاء، وعلى إثر ذلك تم اعتقاله وسجن في "الرادع" مع مجموعة من زملائه الطلبة وقد خرجت مظاهرة أخرى تطالب بالإفراج عنه.
وبعد تأسيس تنظيم الضباط الأحرار أجرى علي عبد المغني اتصالات عديدة وتواصل مع العلماء والمثقفين والمشايخ وكل الأحرار داخل اليمن وخارجها للإعداد للثورة.
وفي شهر يوليو 62م التقى علي عبد المغني بالزعيم جمال عبد الناصر على متن باخرة مصرية في البحر الأحمر بشرم الشيخ حيث كان سفره إلى هناك على ظهر الباخرة اليمنية مأرب عبر ميناء المخا وحصل خلال هذه الزيارة على وعود من الزعيم جمال عبد الناصر بدعم ونصرة الثورة اليمنية.
قيام الثورة واستشهاده
بعد عودته من مصر نظم مظاهرة للطلبة في كل من صنعاء وتعز والحديدة في شهر أغسطس 62م وكان يؤمن بأن المظاهرات هي الجرس الذي سيوقظ اليمنيين من سباتهم، وأنه إذا أفاق الشعب فهو القادر والمتكفل بحماية الثورة.
ليلة تفجير الثورة اجتمع مع مشايخ اليمن الذين وصلوا صنعاء لمبايعة الإمام محمد البدر خلفا لوالده الإمام أحمد وأقنعهم بالمشاركة في الثورة إلى جانب الضباط، وفي الساعة الحادية عشرة من مساء الخامس والعشرين من سبتمبر 1962 توجهت قوات الجيش التي أعدها تنظيم الضباط الأحرار إلى "دار البشائر" التي كانت مقراً للإمام البدر وما أن وصلوها بالمدرعات حتى وجهوا نداءً بمكبرات الصوت يدعو الإمام البدر للاستسلام مع أفراد الحرس الملكي، لكنهم أطلقوا النار بكثافة ما دفع الضباط الأحرار لقصف دار البشائر.
صباح يوم السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م ارتقى محمد الفسيل منصة إذاعة صنعاء ليقرأ أول بيان أعلن فيه قيام الثورة وسقوط عرش الإمامة إلى الأبد، وبعد ذلك عين علي عبد المغني عضوًا فيما عرف بـ«مجلس القيادة»، إلى جانب المشير عبدالله السلال، وعبد الله جزيلان ، وعبد السلام صبرة وآخرين.
بعد أيام من قيام الثورة والجمهورية كلف بقيادة حملة عسكرية إلى منطقة "حريب" في مأرب لمواجهة الحشود الملكية، التي بدأت تستعد لإعلان الحسن بن يحيى حميد الدين إمامًا بمساعدة خارجية، وقد أستشهد علي عبد المغني في هذه المعركة وكان ذلك في أكتوبر 62 وبرحيله خسر اليمن واحدا من المناضلين والأحرار العظام الذين وهبوا أنفسهم منذ اليوم الأول لمجابهة الظلم والطغيان وللانتصار للحرية.
شهــــــــــــــــــادات
• اعترف الإمام البدر بقيادته الفعلية للثورة عليه كما نقل عنه الكاتب الدكتور سعيد محمد باديب في كتاب "الصراع السعودي المصري حول اليمن الشمالي".
• القائم بأعمال السفارة المصرية حينئذ محمد عبد الواحد قال في تقريره الذي رفعه للرئيس جمال عبد الناصر عام 1961، إن علي المغني هو زعيم تنظيم الضباط الأحرار اليمنيين، وهو المعني بالتخاطب والرد على استفسارات تطلبها القيادة المصرية من تنظيم الضباط الأحرار.
• الكاتب والمفكر الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه سنوات الغليان ذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يعرف البكاء في حياته إلاّ مرتين عند انفصال سورية ومصر والثانية عند علمه بخبر استشهاد علي عبد المغني.
• المشير عبد الله السلال صرح في مقابلة تلفزيونية أن الشهيد علي عبد المغني هو مهندس الثورة اليمنية.
• العميد يحيى المتوكل قال لجريدة "الاتحاد" أن تنظيم الضباط الأحرار كان يتلقى الأوامر من الشهيد علي عبد المغني.