سلمان الحميدي-خاص
مواقفُ عدة حدثت لي مع أبي لا يمكن أن أنساها، من بينها حين جادلت سائلاً يطلب صدقة أتى يقود دراجةً نارية، كنت صغيراً، نهرني أبي، وطرح جملةً لا أعرف إن كانت قولاً مأثوراً أو حكمة قديمة أو حديثاً نبوياً: «لا تردوا السائل وإن أتى على جواد أبلق» على هذا النحو تقريباً.
لا أحتاج لبحث معمق حول اقتباس أبي. لقد ارتسمت الصورة في ذهني: إنسان عليه آثار النعمة والغنى راكباً على خيل يمكن أن يسأل، لا ترده أو تهزأ به، التوجيهات الإلهية تقول ذلك، يقول الله لنبيه ولنا في سورة الضحى: «وأما السائل فلا تنهر».
وأنا أفكر في حكمة النهي عن نَهْر السائل، تذكرت صورة الانكسار التي رسمها الشاعر الكبير عبدالله البردوني، في قصيدة تحمل عنوان لافت: «سائل»، وهي الصورة التي حملتها الأبيات:
و يزجي إلى الأسماع صوتا مجرّحا
كئيبا كأحلام الغريب المشرّدِ
يمدّ اليد الصفرا إلى كلّ عابر
ولم يجنِ إلا اليأس من مَدّة اليدِ.
هنا الصورة لسائل محطم الشعور أَلِف مدة اليد، فكيف بمن يمد يده للمرة الأولى.
يحكي الياباني، نوبوأكي نوتوهارا، موقفاً من تجربته الشخصية أثناء زيارته لليمن سنة 1970، يؤكد أن حادثة صغيرة لن ينساها، يقول في كتابه «العرب من وجهة نظر يابانية»: «عندما توقفنا في قرية صغيرة بين عدن وصنعاء، اقترب مني صبى لا يتجاوز عمره عشر سنوات، ومد يده دون أن ينبس بكلمة واحدة، كان صامتاً مضطرباً وبسهولة يستطيع المرء أن يرى الحرج الشديد الذي يعانيه. لقد قدّرت عندئذ أنه يمد يده للمرة الأولى. تلك الحادثة بقيت حية في نفسي وما عداها من تلك الزيارة ذهب في الضباب، لأنني فهمت من ذلك المنظر معنى التوتر الحاد الذي يعانيه الإنسان عندما يطلب شيئاً من الآخرين. إنه يجتاز حاجزاً روحياً، ولذلك لابد من وجود سبب قوي يهدد حياة السائل والا ما استطاع اختراق الحاجز الداخلي، فما هو هذا الشعور الحرج الذي يطلع من داخلنا عندما نطلب شئياً من الآخرين؟».
نوتوهارا في قراءته النفسية للسائل الذي يمد يده لأول مرة، لا يذهب بعيداً عن «وأما السائل فلا تنهر»، درس الرفق الذي يعلمنا به الله، عدم التعالي والتمنن على الآخرين فذلك يضيف إلى شعورهم بالحرج كسراً في الروح.
لا تنهر السائل الملحاح، هذا ما توحي به الآية القرآنية، ذلك أن الناس يضيقون منه في الغالب، معرفة حاجة الآخر تنغص عليهم المعيشة، أو على الأقل تعكر الأمزجة الطامحة بمُتَع الحياة وهنائتها، وإثر ذلك قد تصدر عنهم ردة فعل غاضبة تجاه السائل، خاصة الملحاحين الذين ينتشرون في شوارع البلاد هذه الفترة بسبب الأوضاع.
قد يلتبس عليك المحتاج من غير المحتاج، وقد ترجح ظنك بأن كل الذين يمدون أيديهم في الشوارع؛ يبالغون. قد تضيق من السائل، ولا تصدق شكواه، استخدم حدسك إن تحيرت أن تعطيه أو تتصدق عليه، بإمكانك أن تصرفه أيضاً دون جرح للمشاعر.
يلفتنا القرآن إلى استقراء الملامح عند حديثه عن المحتاجين الذين تحسبونهم أغنياء، تشدني هذه اللفتة الإلهية: (للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم).
يصف الله فئة معينة من المحتاجين، على المنفقين أو المتصدقين الانتباه لهم، فئة موجودة في كل زمن، صفاتهم:
ـ (لا يستطيعون ضرباً في الأرض).. ليس لهم أعمال تغطي تكاليف المعيشة.
ـ (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) يغطون على فاقتهم وحاجتهم بمظهر الغنى وكلام الميسورين.
ـ (ولا يسألون الناس إلحافاً) لماذا هذه السمة بالذات، ولا يسألون الناس إلحافاً؟ ربما لأن من يسأل الناس وتعود على ذلك، يحصل على ما يكفيه، غير أن المتعففين الذين تحسبونهم أغنياء قد يموتون جوعاً.
الآيات من261 إلى 283 في سورة البقرة، تركز على موضوع المعاملات المالية: الصدقة، الإنفاق، الزكاة، الربا، الدَّين. قد تعطي الآخر أو تأخذ منه تحت أي مسمى. في المعاملات التي لا تتضمن ربحاً دينوياً، قد تعطي تحت مسمى: الإنفاق، صدقة، زكاة، أعطية، كرم...إلخ، كلها يحبها الله، المهم نيتك.
قال الله في القرآن (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً..)، عندما تدقق في السؤال لوهلة، تنصدم من عظمة الصورة: بصدقتك تقرض الله، ما أخرجته دين آجل سيحاسبك الله أضعافاً مضاعفة (ويربي الصدقات).
لهذا يقول السائل حين يمد يديه: لله..
قرأت مرةً أن أحد الصالحين، أظنه زين العابدين بن علي، كان يطرح الصدقة في يد السائل ويقبلها، ولما سُئل عن إتباع الصدقة بقبلة على يد السائل، أجاب: إنها تقع في يد الله.
بإمكانك أن تصرف السائل بقول: الله كريم..لا تنهره، أو تضربه، أو تأخذ أغراضه وترميها على الإسفلت. بإمكانك أن لا تعطي أحد، ولكن لا تجرح مشاعر أحد، وإن كنت معطاءً، ضع في حسبانك المحتاجين المتعففين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وإن لم ترد أن تذهب بعيداً، فاحصر صدقتك بالأقربين إن استثقلت الآخرين، إذا لم تعط السائل فتحسس المحروم.
يمن شباب نت